قرع الطبول العسكرية والتراشق بالتهديدات عبر حدود لبنان الجنوبية، لا يصنعان حرباً جديدة، في ظل مخاوف محسوبة جيداً عند «حزب الله» وعند الإسرائيليين. ما يمكن أن يصنع حرباً جديدة هو واحد من اثنين متناقضين تماماً، وهما:
أولاً: خطوة ميدانية متهورة وغير محسوبة من أحد الطرفين على جانبي الحدود التي تبدو الآن – وسط التصعيد المستمر منذ ما يزيد على سنة – أشبه ببرميل بارود يمكن أن ينفجر لمجرد إشعال عود ثقاب، وهو ما يحرص الطرفان على عدم الانزلاق إليه، لهذا تبدو التهديدات النارية وكأنها تنطوي على خوف ضمني من الحرب، وهو ما يفرض اللجوء الواضح إلى التخويف والترهيب من تكاليف هذه الحرب.
ثانياً: خطوة إسرائيلية محسوبة جيداً ومبنية على رهانات لدى بنيامين نتنياهو، تقوم على أساس محاولة استغلال أو توظيف التطورات الإقليمية العاصفة، لشن حرب «تسوية حساب» جديدة مع «حزب الله»، ومن منطلق المراهنة على أن المتغيرات المتسارعة في التوازنات السياسية الإقليمية تساعد على هذا، وخصوصاً في ظل الأوضاع الملتهبة، ابتداء من التصعيد الأميركي ضد الحزب، وصولاً إلى إيران وعلاقاتها المتوترة علناً على خط واشنطن، والمتأزمة ضمناً على خط موسكو، لأسباب تتعلق بالسباق على «الجبنة السورية»!
عملياً الوضع الميداني يغلي منذ أشهر، ففي حين ينخرط الجيش الإسرائيلي في أوسع مناورات داخل طرقات ومجسمات لقرى كاملة أقامها لتحاكي الوضع في جنوب لبنان، يراكم الحزب قوته الصاروخية، وهو ما يتحدّث عنه دائماً السيد حسن نصر الله في مسلسل خطبه.
لكن ما جرى في 28 يناير (كانون الثاني) من العام الماضي، يكشف أن الطرفين يحاذران الانزلاق إلى حرب جديدة لها تداعياتها المقلقة، عند الإسرائيليين الذين يخشون تعرض مناطقهم في الجليل وفي العمق للقصف الصاروخي، وعند «حزب الله» الذي يتورط في حروب خارجية منهكة من سوريا إلى العراق وصولاً إلى اليمن، والذي يخشى من حملة تدميرية واسعة لن يكون ممكناً بعدها إعادة الإعمار هذه المرة، ما سيضاعف من حجم وحيوية القوى المعارضة له، وخصوصاً في الطائفة الشيعية التي بدأت تظهر مواقف قوية ضده.
في 28 يناير الماضي، شنّت إسرائيل هجوماً استهدف مسؤولين في الحزب، بينهم جهاد مغنية وضابط كبير في الحرس الثوري الإيراني، قالت إنهم كانوا يعملون لإقامة مراكز في جبهة الجولان، ورد الحزب عبر عملية في مزارع شبعا ضد دورية إسرائيلية أسفرت عن مقتل جنديين. هنا ينقل المعلّق العسكري في صحيفة «يديعوت أحرونوت» رون بن يشاي عن قائد الجبهة الشمالية الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي، أنه كان على وشك إعطاء الأوامر بشن هجوم واسع ضد لبنان، لكن الحذر والخشية المتبادلة من حرب جديدة واسعة، سمحا بالعودة إلى إطار ضبط النفس!
أفيغدور ليبرمان ليس أول مسؤول إسرائيلي يهدد بتدمير لبنان على رأس «حزب الله» وإعادته إلى العصر الحجري، وإن كان تحدث لأول مرة عن «جبهة الشمال» معتبراً أنها تضم الحزب وسوريا ولبنان، والجيش اللبناني «الذي صار جزءاً من منظومة (حزب الله)»، لكن ذلك يأتي في سياق من التخويف، وخصوصاً عندما يستطرد بالقول: «إن جهودنا تصب في منع حرب مقبلة، ومن يريد السلام عليه أن يستعد للحرب»، و«إن التقديرات التي عرفناها حول ضآلة الاحتمالات لا تنطبق على الواقع، والواقع هشّ، وقد يحدث هذا في أي لحظة»!
ولأن الواقع هشّ، وأي عود ثقاب يمكن أن يشعل الحرب السادسة ضد لبنان (الأولى عام 1978، والثانية عام 1982، والثالثة عام 1993، والرابعة عام 1996، والخامسة المدمّرة عام 2006)، فإن الاستعدادات متقابلة؛ نصر الله يهدد بقصف خزانات الأمونيا في حيفا فتنقلها إسرائيل إلى صحراء النقب، وبالصواريخ التي تواصل إسرائيل سلسلة غاراتها على مخازن وقوافل الأسلحة الإيرانية المرسلة إلى الحزب، وذلك في إطار ما يقول رون بن يشاي إن الجيش الإسرائيلي يسميه «معركة بين الحروب»، وفي المقابل يوسّع الحزب مراكز ومرابض صواريخه بين الأراضي اللبنانية والسورية.
لكن كل التصعيد والتراشق بالتهديد والوعيد لا يصنع الحرب السادسة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، لكن الحذر يجب أن يبقى ماثلاً في ظل الخطوات التي يتمّ حسابها جيداً لدى نتنياهو وحكومته، وخصوصاً في هذه المرحلة الساخنة، وعلى خلفية التطورات الإقليمية المساعدة. وفي هذا السياق يجب التوقف ملياً أمام:
أولاً: مروحة العقوبات الأميركية الجديدة ضد الحزب بعد تصنيفه منظمة إرهابية تهدد الأمن الأميركي والدولي، وتخصيص 12 مليون دولار لمن يوفر معلومات تساعد على اعتقال اثنين من كبار قيادييه، وهما طلال حمية وفؤاد شكر، وتشمل هذه العقوبات دولاً داعمة له (إيران وسوريا)، وأشخاصاً ومؤسسات ترتبط به، إضافة إلى بلديات لبنانية في بيئته، وكذلك تجميد الأصول وحجب المعاملات المالية ومنع إصدار تأشيرات، وتحدّد مؤسسات الحزب بالاسم: بيت المال، وجهاد البناء، وهيئة الدعم، والعلاقات الخارجية، والمنظمة الأمنية الخارجية، وقناة «المنار»، وإذاعة «النور»، والمجموعة اللبنانية للإعلام.
ويأتي هذا مع إعلان البيت الأبيض أنه آن الأوان لرد دولي على «حزب الله»، وفي سياق بات يعتبر أن الحزب بجناحيه العسكري والسياسي منظمة إرهابية، وأن إيران تستخدمه لزرع الإرهاب في العالم منذ عشرين عاماً، وأنه هو الذي نفذ الهجمات على السفارة الأميركية وعلى الفرنسيين في لبنان عامي 1983 و1984!
ثانياً: تتزامن هذه العقوبات مع ارتفاع حدة الاشتباك بين واشنطن وطهران على خلفية النزاع حول الاتفاق النووي والنشاط الصاروخي الإيراني، حيث صعّدت إيران تهديداتها لواشنطن معتبرة أن إدراج «الحرس الثوري» على لائحة المنظمات الإرهابية سيضع أميركا في خندق «داعش» والإرهابيين، محذّرة من تلقينها «دروساً جديدة». وليس غريباً أن تدخل هذه التطورات الساخنة والمواقف الأميركية التي تعتبر «حزب الله» أداة إرهابية إيرانية في حسابات نتنياهو.
ثالثاً: ينظر نتنياهو بكثير من الارتياح إلى التسابق الروسي الإيراني المحموم على إدارة الوضع في سوريا، ويراقب بدقة ما يدور وراء الجدران من ضيق متبادل بين الطرفين على الإمساك بمستقبل الوضع السوري، حيث ينشط الحزب وفق الأوامر الإيرانية، وليس خافياً أن كل الغارات التي نفذتها إسرائيل على مخازن وقوافل السلاح إلى «حزب الله»، كانت موسكو على علم مسبق بها ووافقت عليها، وعليه قد يجد نتنياهو في كل هذا عاملاً ملائماً لشن الحرب السادسة.
رابعاً: ينظر نتنياهو بكثير من الانزعاج إلى المصالحة الفلسطينية بين «فتح» و«حماس»، وخصوصاً أنها جاءت ملائمة، لا بل ضرورية، للمساعدة على أي تسوية سياسية للأزمة الفلسطينية التي يريد دونالد ترمب تحقيقها، وليس من المبالغة الافتراض أن إشعاله الحرب السادسة في لبنان سيدفن هذه التسوية نهائياً!