IMLebanon

تحسُّن طفيف ولكن مشجّع في الجسم العربي

شهدت المنطقة العربية خلال الأيام المنصرمة عدداً من الأحداث المهمة التي توحي بانحسار، ولو محدود ومتعرج، للغة العداء والحروب والانهيار، وبتحسّن ولو بطيء في مساعي التوافق والتعاضد والشراكة. لم تكن هذه الأحداث على المستوى نفسه من الأهمية، لكنها اتسمت بصفة مشتركة ألا وهي أنها تعبّر عن تطوّر في أوضاع النظام الإقليمي العربي. كان من أبرز هذه الأحداث، تجديد التفاهم بين مصر والسعودية، الذي رافق لقاءات الملك سلمان والرئيس السيسي. وكانت لهذا التفاهم نتائج عديدة، من بينها تراجع في صدقية التكهنات أو التوقعات التي انتشرت في بورصة السياسة الدولية حول الانهيار النهائي للنظام الإقليمي العربي. وقد حرص زعيما البلدين على التقليل من شأن تلك التوقعات، عبر الإشارات المتكررة والإشادة بالروابط العربية التي تصبّ في خدمة شعبي البلدين، وعلى تضامنهما مع بعضهما البعض كما قال العاهل السعودي إبان الزيارة.

لقد تجاوزت الزيارة الطابع الرمزي البحت، إذ رافقها الإعلان عن مشاريع مشتركة مهمة بين البلدين، من أهمها جسر الملك سلمان الذي يربط الأراضي السعودية بالمصرية، وتأسيس القوة العربية المشتركة، هذا فضلاً عن مشاريع أخرى عديدة ذات فوائد مشتركة. وستكون للجسر أهمية مضاعفة إذا تم ربطه بالشق الجنوبي لطريق الحرير، إذ إن الإضافة ستزيد الصينيين اقتناعاً بتطوير هذا الجانب من الطريق الدولي، وبإقامة مزيد من المنشآت التابعة لها على الأراضي المصرية. التنسيق بين هذه المشاريع سيساهم في تنمية التجارة بين الدول العربية والصين، حيث يأمل الصينيون بمضاعفتها ثلاث مرات في نهاية العقد الراهن من الزمن.

ومثلما يأمل كثر في السعودية ومصر بأن تكون للجسر آثاره الإيجابية على العلاقات الاقتصادية بين البلدين، فإنهم يتطلعون الى تحوّل التعاون في مجال بناء القوة العربية المشتركة، الى وسيلة لمكافحة الإرهاب وترسيخ الأمن الوطني في الدول العربية. لقد كان مفروضاً أن يجتمع وزراء الخارجية والدفاع العرب خلال شهر آب (أغسطس) الفائت، لبحث مشروع القوة المشتركة وبلورة آلياتها وطبيعة عملها، غير أن الاجتماع أُجِّل الى وقت غير محدد. ولعل الظرف يسمح الآن بعقد هذا الاجتماع وتحريك المشروع، فهناك حاجة ماسة الى القوة العربية المشتركة، ليس في حالات الاقتتال فحسب، وإنما حتى في حالات التوصّل الى اتفاقات هدنة أو سلام بين المتحاربين، إذ يمكن القوة العربية المشتركة أن تضطلع بأدوار مهمة في تطبيق الاتفاقات وتفعيلها.

الحدث الثاني الذي استأثر بالاهتمام أيضاً، الإعلان عن رغبة لبنان وفلسطين في الانضمام الى دول إعلان أغادير. فضلاً عن تزامن هذا الحدث مع التحسّن في العلاقات المصرية – السعودية، فإنه يأتي متزامناً أيضاً مع إعادة تحريك مجموعة دول الإعلان، أي المغرب، تونس، مصر والأردن، حيث عقد وزراء التجارة الخارجية في الدول الأربع مؤتمرهم السنوي بعد فترة انقطاع دامت ست سنوات. وبديهي أن البلدين، أي لبنان وفلسطين، يجدان فائدة في الانضمام الى دول «الإعلان» حتى ولو شهدت الأخيرة مرحلة من الجمود والتقطع. كذلك، فإن الدول الأربع الأعضاء في التكتل العربي – المتوسطي وجدت هي الأخرى أنه من المفيد إخراج تكتّلها من حالة الجمود.

ومن الأرجح أن تتقاطع التطورات في أوضاع دول «الإعلان» مع اكتشاف زعمائه وجود اتجاه أوروبي يعمل على تعزيز التعاون مع الدول العربية المتوسطية. ويهدف هذا الاتجاه الى إيجاد حلول للمشاكل والتحديات الكبرى التي تواجه الدول المتوسطية، عربية كانت أم أوروبية. إن أوروبا تجد نفسها اليوم في وضع يشبه الوضع الذي واجه الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

لقد وجد الأميركيون أنفسهم بعد الحرب العالمية الثانية أمام واحد من حلّين: الأول، أن يدعموا مالياً وعسكرياً حتى ولو دفعوا ثمناً غالياً لقاء هذا الدعم. الثاني، أن يتخلّوا عن دعمهم لأوروبا المهدّدة بالسقوط في يد التوسع السوفياتي وبوصول الأحزاب الشيوعية الأوروبية الى السلطة، مع ما يعني تهديداً للولايات المتحدة في عقر دارها. وقد فضّل الأميركيون أن يواجهوا موسكو في أوروبا بدلاً من أن يحاصروا في بلدهم وأن ينتقل الصراع الى أميركا نفسها. لقد استطاع جورج مارشال إقناع الأميركيين بمزايا الحل الأول، وفي أوروبا اليوم من يدعو الأوروبيين الى اعتماد الحل نفسه في علاقتهم بالبلدان العربية إذا شاؤوا تجنيب القارة مضاعفات استمرار نشاط الجماعات الإرهابية في المنطقة العربية واستفحال نشاطها في القارة الأوروبية نفسها. فهل تستطيع «دول الاعلان» والدول العربية عموماً، دعم المساعي التي يبذلها أنصار مشروع مارشال أوروبي حتى ينجحوا في تحقيق مشروعهم؟

يستطيع المسؤولون في دول الإعلان أن يساهموا عبر العديد من الوسائل في إقناع الأوروبيين بإصلاح سياستهم تجاه المنطقة العربية. ومن أهم الوسائل التي يمكن هؤلاء المسؤولين اتباعها، إنجاح «تكتل أغادير».

ونجاح التكتل يعني تعميقه فعلاً وليس توسيعه فقط. ولقد آن الأوان لأن يدرك الذين يسعون الى بناء تكتلات إقليمية حقيقية في المنطقة العربية، بخاصة تكتّل يضم سائر دولها، أن التوسيع قد يكون في أحيان كثيرة على حساب التعميق، بل إنه يتحوّل الى عائق حقيقي أمام تعميق التكتل إذا كانت الدول التي ستنضم إليه غير مقتنعة بمزايا التعاون الإقليمي.

نحن هنا لا نتحدث عن التوسيع الذي يشمل انضمام لبنان وفلسطين الى تكتل أغادير، إذ إن في البلدين رأياً عاماً يدرك أهمية وجودهما داخل التكتل الإقليمي العربي، كما يدرك أيضاً أهمية التكتل الذي يشكل جسراً مهماً للتحاور مع دول الاتحاد الأوروبي ضمن إطار إعلان برشلونة. لكن الحديث هو هنا عن دول تكتل أغادير في صورة عامة.

فهذه الدول قد تقع في مطب يشبه ذاك الذي وقعت فيه جامعة الدول العربية، حيث أصبح اتخاذ القرارات والامتناع عن تنفيذها السمة الأبرز لعمل الجـــامعة. فإذا شاء زعماء دول «إعلان أغادير» الإفــادة فعلاً من مزايا التكتل الإقليمي، ينبغي عليهم الامتناع عن اتخاذ أي قرار يرونه غير قابل للتطبيق، وأن يجهدوا أنفسهم في تنفيذ الــقرارات التي سبق لهم اتخاذها.

بل ويستطيع زعماء «تكتل إعلان أغادير» أن يذهبوا الى أبعد من ذلك، أي أن يطلبوا من الدول العربية الأخرى التي تودّ الانضمام الى التكتل، أن تطبق القاعدة نفسها التي تطبقها الدول الأوروبية التي تتقدم بطلب عضوية الاتحاد الأوروبي، أي أن تباشر في تطبيق مبادئ التكتل الذي تسعى الى الانضمام إليه قبل أن تقبل كدولة عضو فيه. إن فترة المراقبة هذه تكشف عادةً، مدى استعداد الدولة المرشّحة لعضوية التكتل الإقليمي للقيام بالتضحيات التي يفيد منها الجميع، في الوقت نفسه الذي تطلب من الآخرين تقديم العون والأرباح إليها. وهذا أهم مؤهل لعضوية التكتلات الإقليمية أينما كانت