الدولة في لبنان التي عرفها اللبنانيون منذ عهد الاستقلال عام 1943، كانت دولة تميّز بين المواطنين، ولم تكن دولة قانون كاملة الأوصاف. ثم اتجهت مع الحروب التي شهدتها بعد ذلك، والتحولات الديموغرافية في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلى مزرعة يتحاصصها زعماء الميليشيات الطائفية، إلى أن تلاشى بنيانها وأصبحت مؤسساتها معطّلة ومتهالكة، ونظام الحوكمة السياسي والاقتصادي الذي عرفناه وعشناه فيها على مدى الثلاثين عاماً المنصرمة، سقط وانتهى.
فسيادة الدولة مستباحة، ودستورها معطّل، ومؤسساتها مشلولة، والفساد ينخرها، والإرتهان للخارج يخضّعها ويحوّلها إلى ساحة لصراع الآخرين على أرضها. لذلك، وبالاستناد إلى شرعية ثورة 17 تشرين، وانطلاقاً من الضرورة التي تفرضها اللحظة الثورية للمساهمة في عملية إجراء التحول نحو بناء دولة المواطنة المدنية، دولة القانون والمؤسسات، السيدة الديمقراطية التعددية والعادلة… أرى أنّه لا بدّ من المبادرة للدعوة إلى بناء جبهة سياسية وطنية عابرة للطوائف والمذاهب والمناطق كخيار بديل، قادر على كسب ثقة المواطنين، لقيادة مواجهة طويلة النفس، تُسقط المنظومة الحاكمة، لصالح هذا الخيار، يتشارك فيها أحزاب ومجموعات ونواب وقادة رأي من اللبنانيين الطامحين إلى إرساء الأسس لبناء دولة المواطنة المدنية الحديثة على أنقاض دولة المزرعة الطائفية البائدة.
ومن أجل التقدم خطوة عملية في هذا المجال، وانطلاقاً من روحية وشرعية ثورة 17 تشرين، أقترح في ما يلي البرنامج الذي يمكن أن يشكل قاعدة الأساس السياسي والاقتصادي والاجتماعي لهذه الجبهة، كمنطلق لتداعي واجتماع القوى الحريصة على تحقيق الأهداف المشار إليها في هذا المقترح الذي يتضمن:
أولاً: في دولة المواطنة المدنية
1 – بناء دولة المواطنة المدنية التي تلتزم تطبيق الدستور من دون استنسابية أو اجتزاء لا سيما المادتين 22 (نظام المجلسين) و95 (إلغاء الطائفية السياسية)، والعمل على إقرار قانون اللامركزية الإدارية.
2- دولة تلتزم مبدأ فصل السلطات بدءاً باستقلالية القضاء كمدخل لمكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين عن هدر المال العام وإفلاس الخزينة ومراقبة أداء إدارات الدولة. كما إطلاق يد القضاء في التحقيق بجريمة العصر في مرفأ بيروت وجرائم الاغتيالات السياسية.
3- دولة تقوم على قاعدة المواطنة والعقد الاجتماعي الذي يكرّس حكم القانون ويحترم حقوق الإنسان، ويعزّز مفاهيم المواطنة على حساب الزبائنية والطائفية.
4 – دولة تلغي جميع أشكال التمييز الجندري من قوانينها، وتقر قانوناً مدنياً للأحوال الشخصية، وتؤمّن العدل والمساواة بين المواطنات والمواطنين، وتحمي أفراد الأسرة من شتى أنواع العنف.
5 – دولة تلتزم شرعة حقوق الإنسان والإتفاقات الدولية، وتكرّس الحريات العامة والفردية حقاً مقدساً ومبدأً عاماً نابذاً لكل أشكال القمع المادية والنفسية.
ثانياً: في التصدي للفراغ والتحلل المؤسساتي
1 – الدعوة والعمل سياسياً وشعبياً من أجل الإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية بحكم القانون وفق المادة 74 من الدستور، وباحترام قواعد الديمقراطية.
2- تشكيل حكومة إنقاذ وطني إنتقالية مصغّرة من كفوئين مستقلين عن أحزاب المنظومة الحاكمة، تمنح صلاحيات تشريعية استثنائية لمدة محددة لا تتعدى موعد الانتخابات النيابية المقبلة في شهر أيار العام 2026، تتعهد بتنفيذ البرنامج التالي:
– التصدي للأزمة المالية وكبح جماح التدهور في سعر الصرف من خلال إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي، والعمل على تحصين خزينة الدولة عبر سد مزاريب الهدر والفساد، والغاء جميع المجالس والحاق ما هو ضروري منها بالوزارات المختصة، ومحاربة التهرّب الضريبي والجمركي ووقف التهريب عبر الحدود. وأن تباشر بإصلاح القطاعات التي تستنزفها وفي مقدّمها الكهرباء، وبتحصيل حقوقها المهدورة في الأملاك البحرية والنهرية والمشاعات.
– تحميل عبء الخسائر أولاً لأركان المنظومة الفاسدة من سياسيين وإداريين ممن توالوا على مواقع القرار، ومن مصرفيين استفادوا من مراكمة فوائد الفساد، ومن المتعهدين الذين أمعنوا بهدر أموال الشعب في صفقاتهم المشبوهة. على أن تبادر الحكومة على وضع أملاكهم المنقولة وغير المنقولة مع أصولهم وفروعهم تحت الحجز الاحتياطي وإخضاعهم لقانون من أين لك هذا. وأن تضع الحكومة الأسس القانونية الضامنة لإعادة الودائع لأصحابها.
– أن تبادر الحكومة إلى البدء بمفاوضات مع صندوق النقد الدولي لتأمين القروض اللازمة لإطلاق عجلة الاقتصاد وكذلك مع الدول المانحة، لتأمين المساعدات ما يمكّن من استعادة ثقة الداخل والخارج بالدولة ويشجع على استقطاب الإستثمارات.
ثالثاً: في دولة العدالة اجتماعية
1- دولة تعمل على إعادة توزيع الثروة باعتماد نظام ضريبي تصاعدي يخفف من الفجوة الهائلة في المداخيل ويحمي الفئات المحدودة الدخل.
2- دولة تعتمد نظام الرعاية الاجتماعية بمفهومه الواسع، فتبني شبكة الأمان التي تعالج الفقر المدقع، وتؤمن التغطية الطبية الشاملة وضمان الشيخوخة، وتفعّل التعليم المجاني، وتطوّر وتدعم التعليم الرسمي بجميع مستوياته. وتحسّن نوعية الحياة للبنانيات واللبنانيين، من خلال تأمين السكن والنقل العام والتواصل لأوسع شريحة من الشعب اللبناني خاصة ذوي الدخل المحدود وأصحاب الإحتياجات الخاصة.
رابعاً: في بناء دولة الاقتصاد الحر المنتج
1- دولة تتمسك بمبادئ الاقتصاد الحر وتضع استراتيجية وطنية لبناء اقتصاد منتج لفرص العمل، وجاذب للإستثمارات، يساهم في زيادة الناتج الوطني، ويقلّص العجز في الميزان التجاري، عبر قطاعات منتجة محلية تنافسية، في الصناعة والزراعة والسياحة، وتأمين الأسواق الخارجية لتسويق المنتجات اللبنانية.
2- دولة تؤمّن البنى التحتية اللازمة للقطاعات الإنتاجية وتسهم في تخفيض كلفة الإنتاج، من كهرباء وماء واتصالات ومواصلات.
3- دولة تحمي حرية المنافسة عبر كسر الإحتكارات ومحاربة التهرب والتهريب والتلاعب بالسوق، وتلغي المحاصصة والصفقات بالتراضي، وتلتزم مبدأ الشفافية في المناقصات والتمويل والإستثمار الداخلي والخارجي، وتفعّل الشراكة بين القطاعين العام والخاص بعد إعادة هيكلة الإدارة العامة وترشيقها باعتماد معايير نظام الحوكمة الرشيدة.
4 – دولة تجعل من مبدأ حماية البيئة مادة دستورية، وتولي التنمية المستدامة أهمية قصوى باعتماد حلول حديثة لتوليد الكهرباء ومعالجة النفايات والصرف الصحي، وتجرّم الإعتداء على البيئة.
5 – دولة تهتم بحماية الآثار وإحياء التراث الأدبي والفني وتشجع على الأبحاث في كافة المجالات.
خامساً: في بناء دولة ذات سيادة مكتملة
1 – إسرائيل عدو، والدولة معنية باتخاذ كل الإجراءات الكفيلة بتحرير ما تبقى من أراض محتلة في بلدة الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وتتصدى لأطماعها في مياهنا وثرواتنا.
2 – دولة كاملة السيادة تحمي شعبها على امتداد الوطن من اعتداءات الخارج، وتقوم بمسؤوليتها في مواجهة المعتدي ومحاسبة المتورطين.
3 – دولة تصوغ سياساتها الإقليمية والدولية بما يتوافق مع المصلحة الوطنية اللبنانية دون سواها.
4 – دولة تعطي أولوية لترسيم حدودها البرية والبحرية لتحمي أراضيها ومواردها.
5 – دولة يعود قرار السلم والحرب فيها حصراً إلى المؤسسات الدستورية، وحصرية السلاح بالمؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية.
6 – دولة تستمد قوتها من الوحدة الوطنية وقرارها الوطني المستقل.
7 – دولة تطمح لتأمين مصلحتها ومصلحة شعبها عبر صياغة علاقات ندية وممتازة مع كافة الدول وعلى رأسها الدول العربية، وتدار تلك العلاقات كافة عبر المؤسسات الرسمية اللبنانية.
8- دولة تلتزم بالشرعيتين الدولية والعربية وتحترم المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي توقّع عليها.
9- دولة تتضامن مع الشعب الفلسطيني في قضيته المحقة وتتمسك بعودة اللاجئين إلى أرضهم وترفض أي شكل من أشكال التوطين وتضمن لهم العيش الكريم والحقوق المدنية.
10- دولة تدعم جميع المساعي الضامنة لعودة آمنة وطوعية للاجئين السوريين إلى بلدهم.
على أمل أن يلقى هذا الاقتراح اهتمام قوى التغيير، ليشكل مادة للقاءات تأسيسية، سوف أسعى مع عدد من الاصدقاء المهتمين بالدعوة إليها قريباً.