سيكون من الصعب على أحد تصور أن هامش الحركة السعودية قد توسع إلى حدود الاستقلال عن مركز قرارها التقليدي في الغرب. لكن التخبط الظاهر يكشف عن مشكلات كبيرة آخذة في التعمق، بين نظام دموي ومجنون، وبين عالم قريب وبعيد، فيه من يخشى على الاستقرار، وفيه من يخشى على النظام نفسه. وفي كل الحالات، أدخل النظام الجزيرة العربية وشعوب المنطقة في متاهة، تنذر بتصعيد يصعب إخراجه في لحظتنا الراهنة من إطار الصراعات السياسية التي تتخذ لبوساً دينياً.
في الرياض حالة استغراب، إزاء ردّ فعل الصحافة البريطانية. صحيح أن فرنسا والولايات المتحدة غابتا عن السمع إعلامياً، لكن ما صدر في لندن، لم يكن يقظة ضمير عند صحافة تسكت عن جرائم قتل العراقيين والسوريين واليمنيين. بل كان في جوهره، ردّ فعل غاضباً من الحكومة البريطانية التي تولت في مرحلة سابقة الوساطة غير المعلنة، بين أمراء آل سعود وجهات سعودية محلية وعواصم إقليمية، تهدف إلى منع تنفيذ إعدام الشيخ الشهيد نمر النمر. وقد لامست الوساطة حدود النجاح الكامل، بعدما تلقت حكومة بريطانيا وعداً بأن النظام في الرياض سيؤجل تنفيذ حكم الإعدام، ريثما يصار إلى إيجاد مخرج، كان بعض الوسطاء يرونه سجناً مديداً للشيخ الشهيد.
يقود الثلاثي هجوماً لمنع محور
المقاومة من استثمار نجاحات إيران
ومع ذلك، فإن الأصوات الإضافية التي استنكرت عملية الإعدام، مثل حال الأمم المتحدة، أو بعض العواصم والمسؤولين، لا تمثل عنوان موقف سياسي، أي لا يمكن البناء عليها، لأجل توقع كبح جماح الثور السعودي الهائج. لأن حقيقة الخطوات القائمة، تعكس من زاوية ما، قلق حلفاء الغرب في منطقتنا من المرحلة المقبلة. وهو قلق موجود أصلاً عند الغرب. لكن العالم القاسي الذي فشل في تطويع إيران، ويواجه اليوم مشكلة غير بسيطة مع روسيا، ويعاني غربة مع العالم العربي والإسلامي، ويتحدى أزمات اقتصادية عديدة، هذا العالم، يعرف أن ما تقوم به السعودية، يجب ألّا يخرج عن سياق يريده الغرب لحماية مصالحه الكبيرة. لكن القلق الغربي، يتصل أيضاً بالخشية على مزيد من الخسائر، نتيجة اليقين من كون الرهان على آل سعود أمراً غير محمود.
عملياً، علينا توقع المزيد من الصراخ الآتي من جزيرة العرب. لكن لنميز، بين صراخ حكام يطلبون مدد العالم لمواجهة مصير بائس محتوم، وصراخ لم يرتفع كفاية، لكنه يعكس تنامياً قد يكون أسرع، للفئات المتضررة من سياسات آل سعود. ويكفي سماع زوار أبو ظبي والكويت وقطر، والنقد غير المسبوق لسياسات الرياض، وإن كان لا يزال في غرف مغلقة، حتى يفهم المرء، أن حكام الرياض، فقدوا كل منطق في تبرير سياساتهم أو في حشد الحلفاء. حتى من راضاهم بخطوات دبلوماسية تجاه إيران، لا يمكن اعتباره من الوزن الذي يفتح الباب أمام توقعات مواجهة شاملة.
لكن، هل تتكل السعودية على البحرين والسودان في معركتها ضد إيران وروسيا وحلفائهما؟
تكفي مراجعة المشهد القائم حالياً في المنطقة والعالم، حتى يمكن ملاحظة أن علامات التقارب بين السعودية وإسرائيل وتركيا، باتت كبيرة جداً في الجوهر. وكل تمايز أو اختلاف في طريقة التعبير عنها، لا يحجب حقيقة أن هذه الأنظمة الاستبدادية تتصرف على أساس أنها تواجه حرباً وجودية في وجه محور تقوده إيران. وساحاته صارت بلاد المشرق العربي كلها، يضاف إليها اليوم اليمن، وبلاد الجزيرة العربية نفسها. وكلما اقتربت إيران من لحظة التحرّر من العقوبات القاسية المفروضة عليها من العالم القوي، زاد قلق هذه الأنظمة، ليس فقط لأن الدولة الإيرانية ستكون أمام فرص قوية للتقدم والازدهار وامتلاك المزيد من عناصر القوة، بل لأنها ستتحول إلى نموذج في مقاومة برنامج الاستعمار والتبعية للغرب، وهو البرنامج الذي تخضع له اليوم حكومات أنقرة والرياض وتل أبيب.
وهذا ما يشرع الباب أمام أسئلة عن قدرات هذه الأنظمة على تعطيل هذا المسار، وعلى الآليات الممكنة لخلق مصاعب وعقبات تحول دون سطوع شمس الحقيقة الإيرانية الجديدة. ويعتقد هؤلاء أنه إلى حين توافر فرصة جلب العالم إلى حرب مباشرة وطاحنة ضد إيران، المهم الآن، هو مواجهتها في الساحات الملتهبة، وهو ما يتجلى في المزيد من الجنون في ساحات فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وهو ما يجب أن يكون محل تدقيق يومي، خصوصاً أن المواجهات القائمة في هذه الساحات، قاربت لحظات المعارك الكبرى التي تسبق عادة الحسم، وحيث يتضح أن التحالف الشيطاني الثلاثي، في لحظة عرقلة أي حسم، وذلك من خلال إطالة أمد الحروب الأهلية الدموية، وتوسيع ساحاتها وعناصرها، واللجوء إلى أبشع وسائل التحريض على خلفيات قومية ودينية وثقافية واجتماعية، حيث تكون النتيجة المحققة تفتيت المجتمعات المحيطة بهذه العواصم. وهو يظل الهدف المركزي الذي لا يمانعه الغرب، وفشل في تنفيذه بواسطة جيوشه طوال العقود الثلاثة الماضية، ولا يمانع الغرب تحقيقه بواسطة حلفائه هنا.
كل ذلك يقودنا إلى نتيجة واضحة، أن علينا توقع المزيد من الجنون. وكل تطور إيجابي يحصل لنتعامل معه على أساس أنه المفاجأة غير المنتظرة، لكن المقدمات الحاصلة تقول لنا إن المقبل هو الأسوأ!