للمرّة الألف، إن الانتصار على لبنان ليس بديلاً من الانتصار على إسرائيل. من يذهب إلى بلدة عوكر بحجة التظاهر أمام السفارة الأميركية وينتهي به الأمر بأن يُقدم على أعمال تخريبية تلحق الضرر بأهل البلدة وبزينة الميلاد فيها وبسيارات تعود إلى مواطنين لبنانيين، إنّما يخدم إسرائيل.
على من يريد استرجاع القدس التصالح مع الواقع أوّلاً وليس المتاجرة بقضية المدينة المقدّسة. الواقع يقول إن القرار الذي اتخذه الرئيس دونالد ترامب والذي يعتبر فيه القدس عاصمة لإسرائيل، إنّما هو قرار ينمّ عن رغبة في ضرب كلّ القرارات الدولية بعرض الحائط و«يُشكّل طوق نجاة للجماعات الإرهابية»، كما قال الشيخ محمّد بن زايد آل نهيان وليّ عهد أبو ظبي الذي دعا الإدارة الأميركية إلى التعقّل و«التراجع» عن هذا القرار الخاطئ الذي يصب في مصلحة كلّ المتطرّفين في المنطقة.
ما أقدم عليه الرئيس الأميركي يُشكّل خرقاً لكلّ قرارات الشرعية الدولية، اللهمّ إلّا إذا وضّح ترامب في مرحلة لاحقة ما الذي يعنيه بالقدس. هل هي القدس الشرقية أم القدس الغربية. هل يعتبر أنّ من حقّ إسرائيل ضمّ القدس الشرقية أم أن القدس الشرقية، أو «القدس الشريف»، كما كان يسمّيها ياسر عرفات الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني عاصمة للدولة الفلسطينية التي يُفترض بها أن ترى النور في يوم من الأيّام في إطار تسوية شاملة؟
أيّاً تكن التفسيرات لقرار ترامب، فإن ما أقدم عليه الرئيس الأميركي هو الخطأ بعينه، ذلك أن المستفيد الأوّل من قراره الغريب، الذي جاء في توقيت مريب، هو إيران والميليشيات المذهبية التابعة لها التي سارعت إلى خلخلة الوضع اللبناني في إحدى أكثر المراحل دقة في تاريخ البلد. في مقدّم من استفاد من قرار ترامب هم المتاجرون بفلسطين والقدس وبقضية الشعب الفلسطيني. في سياق المتاجرة بالقدس، تحيي إيران في كلّ سنة في يوم الجمعة الأخير من شهر رمضان المبارك بـ«يوم القدس». الهدف من ذلك خطف القدس من العرب ولا شيء غير ذلك. ما الذي فعلته إيران عندما تعرضّت القدس لخطر حقيقي أخيراً وهو خطر يتمثّل في ما أقدم عليه دونالد ترامب؟ الجواب أنّها لم تقدم على شيء باستثناء إرسال قيس الخزعلي، قائد إحدى الميليشيات المذهبية العراقية التابعة لها إلى جنوب لبنان لتأكيد أن لبنان ليس دولة تحترم نفسها، بل إنّه مجرّد «ساحة» للآخرين لا أكثر.
لا يمكن عزل قرار ترامب عن سلسلة من الأخطاء العربية التي ارتكبت في حقّ القضيّة الفلسطينية. لا يجوز بالطبع تجاهل ما ارتكبه الفلسطينيون في حق نفسهم بما سهّل على شخص مثل ترامب الإقدام على ما أقدم عليه.
الأكيد أن خطابات أشبه بمواضيع إنشائية لتلميذ في الصفوف الابتدائية، من النوع الذي ألقي في اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في القاهرة أخيراً، يمثّل خدمة لإسرائيل. مثل هذه الخطابات التي تدعو إلى مقاطعة أميركا ومعاقبتها تعكس جهلاً وسطحية وغياباً لأي ألمام بالأوضاع الدولية والتوازنات الإقليمية.
في كلّ الأحوال، ثمّة حاجة إلى جهد عربي من نوع مختلف لمواجهة الهجمة التي تتعرّض لها القدس وذلك بعيداً عن التمنيات والأعمال الهوجاء التي رافقت التظاهرة التي حاولت الاقتراب من موقع السفارة الأميركية في لبنان.
تكون نقطة البداية في الاعتراف بأنّ الطريق إلى القدس لا تمرّ لا ببلدة لبنانية ولا بأيّ مدينة عربية. من قدّم القدس، التي يفترض أن تكون تحت وصاية دولية، هديّة لإسرائيل هو من اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. مجرّد اتخاذ مثل هذا القرار في القمّة العربية التي انعقدت في الرباط في العام 1974، كان استجابة لرغبة إسرائيل في تحويل الضفّة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، من أرض «محتلّة» في العام 1967، ينطبق عليها القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن، إلى أرض «مُتنازع عليها». كانت القدس الشرقية عندما احتلّتها إسرائيل مع الضفّة الغربية تحت السيادة الأردنية. للأردن الحق في استرجاع أرضه بموجب الشرعية الدولية، أمّا منظمة التحرير الفلسطينية، فلم تكن وقتذاك على تلك الأرض. فتح قرار قمة الرباط الأبواب على مصراعيها كي تتنكّر إسرائيل للقرار 242 الذي يقوم على التعاطي مع دول احتلت أرضها وعلى مبدأ الأرض في مقابل السلام، خصوصاً في شأن كلّ ما له علاقة بالقدس.
ثمّة معركة قانونية لا بدّ للجانب العربي من خوضها بعيداً عن كلّ ما من شأنه السقوط في الفخّ الإيراني. لعلّ أول ما يجدر بالعرب والفلسطينيين عمله هو تفادي مقاطعة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس عندما يزور المنطقة قبل نهاية الشهر الجاري. على العكس من ذلك، على العرب عموماً والفلسطينيين على وجه التحديد مقابلة بنس والسعي الى إقناعه بأن لا مشكلة في أن تكون القدس الغربية عاصمة لإسرائيل وأن تنتقل السفارة الأميركية إليها شرط أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلّة ومقراً للسفارة الأميركية لدى دولة فلسطين. من الضروري وضع مستقبل القدس في إطار التسوية الشاملة التي تدّعي الولايات المتحدة أنّها تسعى إليها.
لن تخدم مقاطعة بنس سوى إسرائيل وايران التي لا همّ لها سوى المزايدة على العرب فلسطينياً وإقناع الولايات المتحدة بانّها القوة الوحيدة التي يتوجّب على الإدارة في واشنطن أن تبحث مستقبل المنطقة معها.
لا شكّ أن الموقف العربي في وضع حرج ودقيق في ظلّ الأطماع الإسرائيلية من جهة والمشروع التوسّعي الايراني الذي يستهدف اليمن والبحرين والعراق وسوريا ولبنان ودولاً أخرى من جهة أخرى. الأكيد أن إدارة ترامب، باتخاذها قراراً من نوع اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة إليها ضايق كلّ من راهن على دعم أميركي للقوى العربية المعتدلة. أكثر من ذلك، كان هذا القرار المُدان بكلّ المقاييس هدية أميركية لطهران تشبه هديّة تقديم العراق على صحن من فضّة إليها في العام 2003.
هل على العرب المعتدلين الباحثين عن الاستقرار وعن علاقة متميّزة بالولايات المتحدة دفع ثمن خيارهم ورهانهم؟ الواضح أن ترامب يدفع في هذا الاتجاه بعد قراره الغريب في ذلك التوقيت المريب.