كان مجرّد اسم ذكر «الجيش اللبناني» يثير الشبهة في بيروت الغربية في ثمانينات القرن، كان قد مضى عام وبضعة أشهر على دخول جحافل جيش الاحتلال السوري الى بيروت الغربية مطلع شهر آذار بعدما تمّ إحراقها على ايدي ميليشيا الحزب التقدمي الإشتراكي وحركة أمل، في العام 1988 كنتُ أعمل مذيعة في إذاعة المقاصد «صوت الوطن»، وكانت الإذاعة يومها تخوض بهمّة الرئيس تمام سلام ومديرها العام محمد المشنوق، تجربة انفتاح هادىء على الإعلام اللبناني في شطريْ العاصمة.
في أواخر تموز العام 1988 كان الراحل منصور الرحباني يجري بروڤات صيف 840 على مسرح البيكاديللي، أجريتُ لقاءً معه للإذاعة في الكواليس، وجلستُ بعدها في المسرح بعدما وضعت آلة التسجيل على أرضيّته أسجل مقاطع من البروڤات، واحداً من هذه المقاطع كان صرخة لبضع جملٍ تقال قبل أغنية «لمعت أبواق الثورة»، العيش تحت الاحتلال يشعرك دائماً بالنزعة إلى التمرّد والثورة عليه، وكنّا نسير بين النقاط نبثّ الأمل في نفوس اللبنانيين الذين يسمعوننا، لعلّ وعسى.
حلّ 1 آب، أذكر صبيحة ذلك اليوم جيّداً، وكان دوري في تقديم فترة البث المباشر وكنتُ قد أعددتُ لها بحرفيّة اختيار الأغنيات وهي مهمّة أصعب بكثير من كتابة النصّ لأنّها مكمّلةً له، كانت تسمية «الجيش اللبناني» تهمة «عمالة»، كانت التسمية السائدة «الجيش الوطني»، وهي تعني تحديداً «اللواء السادس» المنشقّ عن الجيش اللبناني عام 1984، أكثر العازفين رداءة على وتر تسمية «الجيش الوطني» كان رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، وغالباً في فترات البثّ المباشر كُنّا وبالاتفاق مع مهندس الصوت نبرمج ما سيتمّ بثه من مقاطع وأغنيات وموسيقى، وما أكثر الأغنيات الوطنيّة التي غنت الجيش اللبناني منذ السبعينات وحتى ذاك النهار، أحدثها كانت أغنية وصلت إلى الإذاعة للراحلة سلوى القطريب «يا هادر من بعيد/ شلّالك الأبطال/ والعيد أنت العيد/ يا جيش الما بينطال/ شو حلوة الغبرة عتيابك/ شو مرّة العيشة بغيابك/ بالدّم سطّرت كتابك/ يا حكاية كلّ الأجيال».
فُتِح الهواء، على صرخة مسرحيّة صيف 840 «إبراهيم باشا لا ظلم لا تهديد/ إبراهيم باشا لملم عسكرك ورحال/ جايي بواريدنا وجايي القدر فيها»، إبراهيم باشا المصري الذي احتلّ لبنان يستطيع أن يكون هو نفسه المحتلّ السوري في العام 1988، أعلنتُ بعدها أنّه «اليوم 1 آب عيد الجيش اللبناني»، غالباً كنتُ أسبّبُ وجع رأس لإدارة الإذاعة بجرأتي وحماستي الزائدة، وتحدّثت طويلاً عن الاحتلال، وعن تمسكّنا بحق الجيش اللبناني بالتفرّد بحماية لبنان وشعبه، كُنّا ممنوعين من التنفّس بين الحاجز السوري والآخر هناك حاجز!
للمصادفة يومها، كان أستاذنا الكبير ومدير الإذاعة محمّد كريّم يحضر مؤتمراً إعلامياً انعقد في فندق البستان في بيت مري، بلغته الأخبار، والشهادة لله لطالما تحمّل الأستاذ كريّم «فلتات شوط» من موقعه كمدير للإذاعة صباح 2 آب 1988 وبعد انتهاء فترة البث المباشر اتصل وطلبني إلى مكتبه، كانت قد غابت عن بالي تماماً فترة عيد الجيش، بادرني فور دخولي مكتبه: «يا ست ميرڤت.. شو عاملة»؟ أجبته: «ما شي».. وأستاذ كريّم شديد النباهة ودقيق الملاحظة، أدرك فوراً أنّ عليه تحديد الوقت، قال لي: «مبارح.. بفترة البث المباشر».. ضحكت مدركةً أنّه قد تلقّى اتصالاتٍ وتساؤلات…
هذه الحكاية شهودها كلّهم لا يزالون أحياء يرزقون، لا زدتُ عليها حرفاً، ولا أنقصتُ منها حرفاً، حمى الله لبنان وشعبه وجيشه من المتربّصين بهم.