مع انقضاء الجولة الثالثة من الانتخابات البلدية والاختيارية أمس، ومحطتها محافظتا الجنوب والنبطية، تتبلور أكثر فأكثر صورة الواقع السياسي الذي رسمته هذه الانتخابات في انتظار اكتمال مشهديتها الاحد المقبل من الشمال، لتتيح بذلك للقوى المنضوية فيها إجراء القراءة النهائية لحصيلتها ولما أفرزته، إستعدادا للمحطة الانتخابية على المستوى النيابي.
لم يفت أي فريق أن يتعامل مع الانتخابات البلدية من خلفيات سياسية وحزبية وطائفية، بحيث غاب الطابع الإنمائي والبلدي بالكامل عن شعارات المعركة لتحل محلها الشعارات السياسية.
ولم يكن حال “حزب الله” وحركة “أمل” في الجنوب مختلفا عن حال “تيار المستقبل” في بيروت أولا، ثم في صيدا. وفي الوقت الذي انتقدت فيه أوساط الثنائي الشيعي تغليب “المستقبل” للشعارات التي خاض بها الرئيس الراحل رفيق الحريري معاركه، من أجل استنهاض الشارع السني، عمد الحزب وإلى جانبه “أمل” بطبيعة الحال، إلى استعادة الخطاب المقاوم في وجه العدو، والدعوة الى التزام الهوية الوطنية المقاومة. وعكس الحزب بخطابه التعبوي إرباكا يسود صفوفه، دفعه إلى استنهاضه بعدما أنهكت الحرب السورية القواعد الشعبية وشتتتها. وقد عزز هذا الانطباع لدى الأوساط السياسية المراقبة عدم اكتفاء الحزب بالتكليف الشرعي، بل استلزم الأمر خطابا تعبوياً للأمين العام للحزب لخوض الانتخابات في69 بلدة، فيما نجحت 33 بلدة بالتزكية. وهذا يؤشر إلى أن الحزب بدأ يأخذ في الاعتبار الصوت الشيعي الثالث من خارج الثنائية الذي ظل مهمشاً أو مخوَناً بسبب معارضته واستقلاليته برأيه السياسي من خارج إطار منظومة الحزب.
أما على المقلب المستقبلي، فالحال لم تكن أفضل في صيدا، حيث عكست نسبة الاقتراع الضئيلة تراجع الحماسة لدى الصيداويين للانتخابات أو لقياداتهم. وهو مؤشر خطير يختلف كليا عن ذاك الذي ساد بيروت حيث لم يكن هناك خصم حقيقي ضد اللائحة المدعومة من التيار الأزرق والتحالفات المسيحية الأخرى معه. ذلك ان التنافس في صيدا على أشده ليس بين 3 لوائح بلدية وإنما بين تيارين سياسيين، أحدهما يمثل الاعتدال السني والآخر يمثل التطرف.
والواقع المسيحي لم يكن أفضل حالاً في جزين حيث عكست نسبة الاقتراع الضعيفة ترددا في الوسط الجزيني، علما أن المدينة خاضت أمس تجربة فريدة لا بد من أخذها في الاعتبار مستقبلاً، نظرا إلى الاحراج الذي ولدته لدى الطبقة السياسية والضغط الذي ستمارسه عندما سيشارك نائبها الفائز في جلسات المجلس النيابي، وهو يتمتع بشرعية التمثيل الشعبي، فيما زملاؤه ممددون لأنفسهم من خارج الارادة الشعبية.
وهذا يفتح الباب واسعاً امام الاستحقاقات الداهمة التي ستواجه الوسط السياسي بعد انتهاء الانتخابات البلدية، والمتمثلة بثلاث محطات: التوافق على إقرار قانون للانتخاب تمهيدا لإجراء الانتخابات النيابية التي سقطت كل مبررات تعطيلها او تأجيلها، بعد نجاح السلطة السياسية بإنجاز الاستحقاق البلدي، ونجاح الاجهزة الامنية بضبط الوضع الامني ومنع حصول ما يعكر صفوها مظللة بقرار سياسي داخلي مغطى بدفع خارجي. والمقصود منه إجراء ما يشبه “البروفة” لتقويم حظوظ إنجاز الاستحقاق النيابي.
ويبقى الاستحقاق الرئاسي الاهم والاخير وهو لا يزال معلقاً على الايقاع الاقليمي من جهة والدولي وتحديدا الاميركي من جهة ثانية، بما أن الادارة الاميركية دخلت في مرحلة الانتظار حتى إنجاز الانتخابات الرئاسية فيها.
وفي حين تعلق أوساط سياسية أهمية على التحرك السعودي الاخير في اتجاه لبنان من خلال مبادرة سفير المملكة الى جمع أقطاب حول مأدبة عشاء وتوجيه رسائل مباشرة وواضحة حيال الموقف السعودي من الملفات السياسية الداخلية وفي مقدمها موضوعا الرئاسة والحوار الداخلي، فإن هذه الاوساط لا تخفي خشيتها من ان يكون العشاء مبادرة شخصية من السفير، وإن كانت لا تخرج حتما عن إرادة القيادة الملكية، وتهدف إلى احتواء التشنج الذي خلفته الإجراءات العقابية الأخيرة للمملكة في حق لبنان ولإعادة وصل ما انقطع، خصوصا أن هذه المبادرة لم يسبقها أو يرافقها أي تبدل عملي يواكبها.