إنّه زمن التطبيع في كلّ مكان، من الخليج العربي مروراً بالبحر الأحمر مع انطلاق المسار بين السودان وإسرائيل، وصولاً إلى البحر الأبيض المتوسط مع الترسيم البحري ولاحقاً البري بين لبنان وإسرائيل. وهو زمن الكشف كما قيل في الرواية الدينية القديمة أو زمن الوصول للمعلومة كما يقال في الزمن الرقمي، بل لنقل إنه زمن سقوط الأقنعة.
التطبيع هو ترجمة لميزان القوى الذي فرضته الولايات المتّحدة بقدراتها الفائقة، ليس في المجالات الإقتصادية والعسكرية والتقنية والرقمية فحسب، بل أيضاً بقدرتها على استخدام المكوّنات الدينية والإثنية في هذا الشرق، ووضعها في حالة تصادم منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، إلى جانب دعمها لأنظمة سياسية فاسدة وقيادات عسكرية ودينية أرهقت القدرات الوطنية للدول العربية، وأيقظت كلّ الموروث الديني والعرقي الكامن ووضعته في خدمة مشروع السيطرة على الشرق الأوسط.
وفي زمن الكشف تمارس الإدارة الأميركية فوقيّتها وازدراءها بكلّ من جنّدتهم لمصالحها. تكشف رسائل البريد الإلكتروني لوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون التي سُربت الأسبوع المنصرم، تورط قطر وتركيا والأخوان المسلمين، وتبادل الأدوار في ما بينها، لتمويل وإدارة الأنشطة الإرهابية في مصر والعراق وسوريا وليبيا، بما يكفي لتحميلها كلّ تبعات انهيار المؤسسات والإفقار والتدمير وتمكين إيران من الإمساك بقرار هذه الدول. هذه الوثائق سبقتها مجموعات أخرى قدّمت أكثر من دليل على التعاون الإيراني مع القاعدة وداعش ومنظّمة الأخوان، واستخدام العمق الإيراني من قبلهما للتجنيد والتدريب والحماية. وكان آخر الغيث ما سربته «ويكليكس» من تصريحات منسوبة للعماد ميشال عون حول اتّهامه حزب الله بالإرهاب وترجيحه تورط النظام السوري في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
في زمن الكشف لم يعد هناك ما نجهله. سقطت العناوين التي احتلت الساحات وسقط خطباؤها، وانفضّت الإتفاقات التي اعتقد كلّ من عقدها أنه الأدهى، ليكتشف الجميع أنهم مستزلمون للجهة نفسها.إنّ جولة إفتراضية بين العواصم والمدن العربية المنكوبة، من بيروت الى دمشق وحلب وبغداد والموصل والبصرة، وحتى صنعاء فالخرطوم، كافية لترسيم حزام البؤس والقهر والإستبداد والتهجير، قبل ترسيم الحدود. هذا الحزام الذي تعاون على صياغته أقزام مستبدون تمّ إنتاجهم في أقبية الإجرام والتعصب، وتمرسوا على مدى أربعة عقود على نسج المؤامرات وإسقاط الدول، وتحويل أعرق المدائن إلى معتقلات للمثقفين وإلى أوكار للإجرام والإرهاب. يمثّل لبنان بين دول هذه المنظومة النموذج المثالي الذي يجمع كلّ الأعراض وكلّ الأدوارالتي عرفتها دول المنطقة، فهو الساحة المتاحة دائماً للتحرير والتوظيف الإقليمي لمن يرغب، وهو البيئة المشرذمة وطنياً والجاذبة لكلّ أنواع التعبئة المذهبية والطائفية، ويحكمه سياسيون فاسدون يستثمرون في موقع جغرافي مسهّل للخدمات اللوجستية والمالية.
في زمن الكشف والتطبيع وفي ظلّ إنهيار إقتصادي ومالي وبيئي وصحي وانكشاف دولي وإقليمي، ماذا تبقّى من إرادة وطنية لدى من يمسكون القرار لتشكيل حكومة في لبنان؟
وقبل كلّ ذلك، ماذا تعني الإستشارات الملزمة للتسميّة ومرسوم التكليف والإستشارات غير الملزمة للتأليف، إذا لم يكن بين كلّ منظومة السلطة من يستطيع إخراج لبنان من أزماته؟ وما هو الفارق بين حكومة وأخرى إذا كان الخروج من الأزمة غير متاح إلا بعد قبول شروط المجتمع الدولي، وعبر المؤسسات المالية الدولية؟ وما هي القيمة المضافة لاستلام أيّ من الكتل النيابية أو الطوائف هذه الوزارة أو تلك، إذا كانت أيّ منها لا تملك سوى خيار الرضوخ للشروط الدولية ـــ طبعاً لا يلام المجتمع الدولي على موقفه فقد سبق واختبر فسادكم ونفاقكم على امتداد عقود؟
كانت حجة حزب الله لتعطيل حكومة مصطفى أديب أنّه يتمسك مع حركة أمل بحقيبة المالية لحماية المقاومة، فهل لا زال هذا الشرط قائماً بعد الشروع في الترسيم؟ وهل يحمي التوقيع الثالث حركة أمل وحزب الله أم يحميهما توقيع اتّفاقية الترسيم، وهل يؤمّن توقيع الترسيم الحماية من العقوبات الدولية في ما يؤمّن التوقيع الثالث حماية المكتسبات الداخلية على حساب الدستور؟ وهل ينسحب الموضوع عينه على حقيبة الطاقة التي تحمي التيار الوطني الحر الذي أدارها لسنوات عديدة وأغرقت الإقتصاد بأكثر من 45 مليار دولار، وعلى وزارات الصحة والأشغال العامة وسواها التي تحتمي وراء كلّ منها الطائفة التي سُجلت بإسمها؟
يدرك كلّ من في السلطة أنّه لا يمكنه التأثير في تشكيل حكومة مقبولة دولياً، ولا قيمة لأي إضافة يمكن أن يقدّمها، فالقيود الدولية غير قابلة للنقاش وتبعات عدم الإمتثال معروفة أيضاً. إنّ النقاش الدائر تحت مسمّى الإستشارات لتشكيل الحكومة ليس أكثر من محاولة كلّ من مكونات السلطة لتسويق التنازل عن المكتسبات التي طالما تمسك بها أمام جمهوره، والبحث عن مخارج لارتكابات عقارية ومالية أو في الطاقة والإتصالات وسواها.
إنّ مهمة الحكومة العتيدة لن تفيض عن توقيع الخطة الإصلاحية مع صندوق النقد الدولي الذي سيشرف على تطبيقها، وعلى وجهة استخدام التقديمات والقروض المالية. يروي مطلعون على تفاصيل التدخل الدولي أنّ القطاعات الإنتاجية والخدماتية وترميم البنى التحتيّة ومنها مرفأ بيروت قد تمّ توزيعها على الدول المانحة، وأنّ الحكومة اللبنانية لن تلعب أكثر من دور مجلس الإدارة في دولة أصبحت تحت الرقابة الدولية.
قد يبدو المشهد المرتقب أقرب الى السوريالية، ولكن القاعدة الذهبية «من استطاع الكثير يستطيع القليل» تتيح الإستنتاج أنّ من استطاع فرض توقيت الترسيم وأدبياته المحرجة قادر حكماً على فرض قواعد تشكيل الحكومة.
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات