صحيح أنّ رئيس الحكومة سعد الحريري رفع صوته عالياً ضد «التجاوزات» المرتكبة في حق التسوية، وضد التعرض للطائفة السنّية، وفق المقاربة التي قدمها خلال مؤتمره الصحافي، لكن تصعيده هو من النوع المدروس والمحسوب، وهدفه الاساسي تحسين شروط «الشراكة» وليس الإنقلاب عليها.
في المقلب الآخر، يبدو أنّ «حزب الله» يشارك الحريري في التمسك بالتسوية، مع ما يعنيه ذلك من حرص على استمرار التعاون معه وعدم إحراجه الى حدّ إخراجه من رئاسة الحكومة. أما السجال الذي حصل بين الطرفين أخيراً حول مضمون خطاب رئيس الحكومة في قمة مكة فهو على الأرجح «موضعي»، وتحت السيطرة، وبالتالي يندرج في اطار الهامش المشروع تحت سقف الالتزام بالتسوية.
يقارب «الحزب» مسألة العلاقة مع الحريري بكثير من الواقعية والبراغماتية، ربطاً بحسابات ومعايير دقيقة. وعلى رغم من الخلاف الاستراتيجي بين الجانبين، والممتد من دور المقاومة في لبنان الى ملفات الإقليم، إلّا انّ كلاهما ليس في وارد التفلت من معادلة «ربط النزاع» التي أثبتت جدواها منذ أن تمّ الركون اليها لفصل الشأن الداخلي المحض عن اشتباك الخيارات الكبرى ولاحتواء آثار العواصف الاقليمية على لبنان عموماً وعلى الساحة السنّية – الشيعية خصوصاً.
وقد أتت التطورات المتلاحقة في المنطقة، لتعزز شعور «الحزب» بضرورة المحافظة على «الستاتيكو» الحالي في لبنان وعدم ضرب أي من ركائزه. بالنسبة اليه، ليس هذا هو الوقت المناسب للخوض في أي مواجهة واسعة مع الحريري، ذلك أنّ «الحزب» الذي كان قد اتّخذ قراراً بالانخراط الاعمق في الملفات الداخلية وجد نفسه مضطراً في هذه المرحلة الى إعطاء مقدار كبير من الاهتمام والأولوية لأحداث الإقليم الساخن، كونه معنياً مباشرة بها او بتداعياتها، من التوتر الايراني – الاميركي المتفاقم على وقع عقوبات غير مسبوقة في حق طهران، الى التحضيرات لـ»صفقة القرن» التي تعني توطين الفلسطينيين وتصفية حقوقهم، مروراً بالحرب المالية «الخشنة» التي تشنّها واشنطن على «الحزب» لتجفيف مصادر تمويله وقوته.
وفي انتظار أن يتضح اتجاه الريح في المنطقة، لن يغامر «حزب الله» بأي خطوة قد تفضي الى هزّ الاستقرار الداخلي وتوازنات السلطة، وبالتالي فهو سيسعى الى عدم قطع الخيط الرفيع الذي يفصل بين متطلبات مساهمته في مكافحة الفساد والهدر ومعالجة الملفات الاجتماعية والمعيشية التي تثقل كاهل بيئته وعموم اللبنانيين، وبين ضرورات حماية التسوية وقاعدة «ربط النزاع» مع بعض الشركاء في الدولة.
ولعل هذا «المنحى الاحتوائي» المعتمد لدى «الحزب» يعكسه بنحو واضح سلوك وزرائه في الحكومة، حيث انهم يدفعون في معظم الاحيان نحو تطويق التوترات ومعالجة الامور بالتي هي احسن، بل ان احد هؤلاء الوزراء بادر في احدى الجلسات الى الدفاع عن الحريري. وكان لافتاً انه حتى تحفظات «الحزب» عن مشروع الموازنة، فضّل ان يتوسع في الادلاء بها في مجلس النواب وليس داخل الحكومة تفادياً لتوسيع الشرخ في صفوفها.
استنادا الى مجمل هذه الاعتبارات، بدا «حزب الله» حريصا على خفض منسوب التوتر بين رئيس الحكومة و»التيار الوطني الحر»، وصولا الى تمنّيه على الوزير جبران باسيل التهدئة وتجنب التصعيد ضد الحريري، منطلقا من اقتناع لديه بأن ليس من مصلحة حليفه المسيحي أن يضيّق الخناق على نفسه، وان يزيد عدد خصومه ويضيف اسم الحريري الى لائحة طويلة تضم الرئيس نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع.
ثم إنّ «الحزب» المتمسك بالتحالف الاستراتيجي مع «التيار الوطني الحر» لا يريد في الوقت نفسه ان تتحول خصومات باسيل عبئا عليه، وان يتحمل وزرها وتبعاتها، في فترة دقيقة لا تتسع للدعسات الناقصة والمواقف الانفعالية. والنصيحة بعدم الذهاب بعيدا في المواجهة ضد الحريري أسداها «الحزب» ايضا الى بعض حلفائه السنّة، ممن لديهم اعتراضات على سلوك رئيس الحكومة وطريقة مقاربته القضايا المطروحة، وهو أبلغ اليهم أن اولويات هذه اللحظة لا تتيح له أن يغطي، او يشجع، الدخول في معركة قاسية مع الحريري، من شأنها أن تشتت انتباهه عن التحديات الداهمة، ببعديها الداخلي والخارجي.
وبعيداً من الغبار الذي تُخلفه احتكاكات ظرفية في اوقات متقطعة، يروي أحد المطلعين ان الحريري لم يقطع خطوط الاتصال بالحزب، بل انه كان يشكو أحيانا لدى المعاون السياسي للامين العام لـ»حزب الله» حسين الخليل من تصرفات بعض الشخصيات السنّية في 8 آذار، متمنياً عليه التدخل لمعالجتها.