لم يكُن الحاضر يحتاج إلى كثير عناء لكي يستنتِج أنه أمام مجلِس نيابي عابِر للأجيال. كُتل سياسية تنقسم بغالبيتها بين جيل كساه الشعر الأبيض، وجيل نِصف طفولي. في انتخابات رئاسة المجلس، تأكّدت السيرة. بدا الناظر إلى الهيئة العامة للبرلمان، كأنّه يتابع مُسلسلين. واحد بالأبيض والأسود، وآخر بالألوان. مشهد النائب ميشال المُر في مقعد الرئاسة، مُحاطاً بالنائبين طوني فرنجية وسامي فتفت، وحده كفيل باختزال الصورة. هي المرّة الأولى التي يتمتّع فيها «أبو الياس» بسلطة هذا المقعد (ولو لدقائق). كذلك الأمر بالنسبة إلى فرنجية وفتفت اللذين جلسا إلى جانبه. لكن المرّ في التسعينات كان زعيماً، وكانا هما لا يزالان طفلين يلهوان في ملعب المدرسة. قادَ تقاعُد والديهما (سليمان فرنجية وأحمد فتفت) إلى توريث مقعديهما. أراد المر في هذه اللحظة أن يثُبت قدرته على المُضي في المسؤولية. طيلة جلوسه على منصّة الرئاسة، لم يلتفِت إليه الزميلان الصغيران. لا يميناً ولا يساراً. انشغل هو بإدارة جلسة الانتخاب وبتصفية حسابات «مع من حاولوا اغتياله انتخابياً»، من دون أن يتدخّلا لمعاونته. تولّى الأمين العام للمجلس عدنان ضاهر، إسعاف المر بروتوكولياً. هل يسري مشهد الانتخاب هذا على علاقة الأجيال المُتفاوتة في مجلس النواب مُستقبلاً؟
بعد تمديدٍ دامَ تسع سنوات، كانت ساحة النجمة هي الحدث، بالأمس. حدث متعدد الأبعاد. انتخاب رئيس مجلس النواب. النتيجة محسومة. لا منافس للرئيس نبيه برّي. شبه إجماع سبقه إلى القاعة. زادَ عدد الأصوات عن عام 2009، ثمانية أصوات. آنذاك، نال برّي 90 صوتاً من أصل إجمالي الحضور البالغ 127 نائباً. بالأمس، كانوا 98 صوتاً منحوه ثقتهم. الدخول إلى مجلس النواب ليسَ كأي مرّة. تسعة وسبعون وجهاً جديداً حازوا لقب «السعادة». هؤلاء يحتاج المرء معهم إلى «كاتالوغ» يضمّ صورهم مذيلة بأسمائهم. حتى النواب أنفسهم كانوا يستفسرون عن هويات بعضهم البعض. تردد أن أحدهم استعان بخاصية محرك «غوغل» للمطابقة بين الإسم والصورة في رحلة البحث عن زملائه الجدد.
قبلَ دقيقتين من الثانية عشرة ظهراً (موعد انعقاد الجلسة)، دخل نواب تكتّل «الجمهورية القوية» إلى القاعة، بعد أن كانوا قد غادروها سويةً لبعض الوقت. أضاعوا نائبين هما سيزار المعلوف وجان طالوزيان. حين دخل الاثنان إلى القاعة، كان قد سبقهما إلى مقاعدهما كل من سامي الجميل وابن عمّه نديم الجميّل. سطا النائبان الكتائبيان على مقعدي نائبي القوات، بعدما تعذر عليهما الفوز بكرسيين في الخلف. سارع طالوزيان والمعلوف إلى المطالبة بمكانيهما. اشتكى طالوزيان لستريدا جعجع وجورج عدوان. لكن تجاهل نديم وسامي أعاده إلى الخلف. بالمناسبة، كانت أماكن الجلوس محطّ خلاف بين النواب، الذين تنافسوا على الصفّ الأول. النائب فؤاد مخزومي على سبيل المثال، كان سباقاً إلى ذلك. أحبّ «جيرة» الرئيس نجيب ميقاتي والنائب بهية الحريري. اضطره ذلك إلى تلاسن ناعم مع النائب المستقبلي محمّد الحجار. تلاسن لم يؤثر بمخزومي الذي حظي خلال الجلسة بملاطفة عونية من كل من جبران باسيل والياس بو صعب وسيمون أبي رميا!
وُضع صندوق الاقتراع الخشبي في نصف بهو القاعة. وتحديداً قبالة برّي الجالس في مقاعد النواب بين نجيب ميقاتي وجان عبيد. نائب تلوَ الآخر يمرّ. يضع الورقة. ينظر إلى برّي. يكتفي بالابتسام. يربت على صدره. وحده النائب علي عمّار أراد قبلة من على جبين «دولته». عند تسجيل الأسماء، استفسر سيزار المعلوف زميله عاصم عراجي عن طريقة تدوين الاسم: «منكتب نبيه برّي أو الأستاذ نبيه برّي». يرد عراجي «نبيه بري من دون ألقاب».
حيَن طُلب إلى النواب تهيئة أنفسهم للاقتراع، كان إبراهيم كنعان أول من سارع في تكتّل لبنان القوي لسحب قلمه من جيبه. هي إشارة معلنة إلى نيته انتخاب برّي، لا التصويت بورقة بيضاء. على هذا المنوال، أمكن التعرف إلى معظم العونيين الذين صوتوا لبري. حتّى أن جبران باسيل كتب على ورقته، وكذلك فعل الياس بو صعب. فجأة، لم يعُد بري خصماً تقليدياً للعونيين في جلسة الأمس. حتى المرّ الذي كان هدفاً لهم في الانتخابات، أحيط بنوع من الاهتمام، خصوصاً من قبل زميليه الأرثوذكسيين بو صعب والفرزلي.
في جلسة الأمس، تبدت أمور لافتة للانتباه: لم يسجّل أي كلام أو سلام بين وزير الداخلية نهاد المشنوق ورئيس الحكومة سعد الحريري، وفي المقابل، شوهد نائب جمعية المشاريع الإسلامية عدنان طرابلسي يتوّدد إليهما. سلّم على المشنوق مرّة بحرارة. وقف متحدثاً إلى الحريري لبضع دقائق مرّة أخرى. أما طوني فرنجية الذي حرص على التجوال بين المقاعد وإلقاء التحية على زملائه، فقد حرص نواب القوات على مصافحته في شكل تلقائي. أما تيمور جنبلاط، فقد نأى بنفسه عن السلام والكلام إلا في ما ندر. النائب محمد سليمان أراد أن تكون انطلاقته النيابية مميزة. حضر مرتدياً الكوفية والعقال والعباءة العربية التقليدية. مظهر اعتبره كثر غير مألوف في مجلس النواب اللبناني.
الفرق بين يعقوبيان وغيرها أنها أصرت على حقها في عدم تغييب صوتها
حصل بري على 98 صوتاً. في حسبة بسيطة، يتبيّن بأن عدداً كبيراً من أصوات أعضاء تكتّل لبنان القوي صبّ لمصلحته. مقابل 29 ورقة بيضاء وواحدة ملغاة. الأجواء هادئة ولم يعكر صفوها سوى اعتراض بولا يعقوبيان على أنها لم تقترع بورقة بيضاء. إنما دوّنت اسم المخرجة السينمائية نادين لبكي. الفرق بين بولا وغيرها أنها جاهرت بذلك، وأصرت على حقها في عدم تغييب صوتها. فيما لم يفعل النائب طالوزيان ذلك. هو أيضاً دوّن اسماً غير الرئيس برّي. اسم غير معروف. وظلّ كذلك لأنه لم يسجّل موقفاً كما فعلت زميلته. أخبرها في السرّ. أصرّت عليه أن يقول ذلك على الملأ. اصطدمت بجورج عدوان الذي بدا وكأنه لا يريد التسبب بأي إحراج للكتلة!
أعلن المر فوز بري وناداه لترؤس الجلسة. من كرسي الرئاسة، سارع بري للرد على يعقوبيان قائلاً: «معها حق. صحيح أن الورقة ملغاة لأن ليس هناك نائب من آل لبكي، بل يوجد لبكة غير شكل».
مباشرة بعد انتخابه، دعا بري إلى تشكيل حكومة بأسرع وقت ممكن. وقال في كلمة له: «سيكون على مجلسنا الكريم التزام المشاورات النيابية لإنجاز الاستحقاق الثالث المتمثل باختيار رئيس لحكومة لبنان وتكليفه بتشكيل الحكومة وصولاً للثقة بأقصى سرعة ممكنة». وعلى مسمع القائم بالأعمال السعودي في لبنان وليد البخاري، أكد بري رفض لبنان «ما يسمى بصفقة العصر وكل ما يتصل بها، والعمل برلمانياً لإطلاق دبلوماسية برلمانية تسهم بدعم الحلول السياسية للمسألتين السورية واليمنية وأي قضية عربية أخرى».
اكتمال هيئة المكتب
في ما خصّ انتخاب نائب لرئيس مجلس النواب، حصل إيلي الفرزلي على 80 صوتاً، مقابل 32 لأنيس نصار (مرشح القوات)، و4 أصوات لنقولا نحاس (عضو الكتلة الوسطية برئاسة ميقاتي)، وصوت لبولا يعقوبيان، و8 أوراق بيضاء، و2 ملغاة. وفي انتخاب أميني السرّ، فاز النائبان آلان عون بـ84 صوتاً، ومروان حمادة بـ72، مقابل حصول النائب اسطفان الدويهي على 42 صوتاً. سجّل الدويهي اعتراضاً على آلية التصويت. ردّ آلان عون بالقول: «يللي بيتو من قزاز ما بيراشق الناس بحجارة».
من ملف : وداعاً 14 آذار!