IMLebanon

رحلة إلى أقبية سجن تدمر قبل تدميره

مع سيطرة «داعش» على مدينة تدمر في سوريا، وتواتر كلام عن تحرير معتقلين لبنانيين فيه كان قد أسرَهم النظام السوري منذ أعوام طويلة، لا بدّ من إلقاء الضوء على هذا السجن الذي وُصِفَ بأنه «جهنم»، على رغم أنّ تحرير معتقلين لبنانيّين منه لا يزال يكتنفه الغموض، لأنّه من المنطقي أن يكون النظام نقل هؤلاء إلى سجن آخر قبل وصول «داعش» إلى المكان وتدميره.

بنت هذا السجن قواتُ الانتداب الفرنسي كثكنة عسكرية في زمن الاستعمار الفرنسي، لتعذيب المجاهدين ضد الاحتلال الأجنبي. ولكنّ صيته بقي الأسوأ بين السجون والمعتقلات السورية حتى في عهد الاستقلال. يضمّ السجن عدداً كبيراً من السجناء العسكريين والمعتقلين السياسيين، ويعامل كلا الصنفين بوحشية، وأغلق هذا السجن عام 2001 وأعيد افتتاحه عام 2011 لاستيعاب عدد أكبر من السجناء.

الداخل مفقود… والخارج مولود

كثر من اللبنانيين ذاقوا الأمرين في سجن تدمر، نظراً إلى ظروف الاحتجاز القاسية، اضافة إلى ما كان يشهده من حالات تعذيب وانتهاك لحقوق الإنسان وإعدام بعد محاكمات شكليّة داخل السجن. ويُعتبر هذا السجن من بين أخطر عشرة سجون في العالم.

اذاً، هو سجن عسكري يقع قرب مدينة تدمر الصحراوية وقرب آثارها الشهيرة، نحو 200 كلم شمال شرق العاصمة السورية دمشق. افتتح عام 1966، وهو في الأساس سجن مخصّص للعسكريين وتشرف عليه الشرطة العسكرية، ليُستعمل في ما بعد كمعتقل سياسي لأصحاب التهم الكبيرة، ومركز تصفية للجماعات الإسلامية المعارضة من بينها «جماعة الإخوان المسلمين».

«الداخل مفقود… والخارج مولود»، هذا الشعار منقوش على مدخل السجن. فالحياة في تدمر كانت كالسير في حقل ألغام، فقد يفاجئك الموت في أيّ لحظة، إما بسبب التعذيب أو وحشية السجّانين أو المرض أو الإعدام.

وربما تكون تلك الشهادة لمعتقل لبناني مرّ في سجن تدمر أكثر صدقاً وواقعيّة: «ما ان تبدأ حدود مدينة تدمر حتى تكون «الطمّاشة» رفيقة دربك خلال رحلتك الطويلة التي قد تنتهي بالموت فجأة كما حدث للكثيرين. والطمّاشة عبارة عن عصبة توضع فوق العينين مع رباط خلفي، هي توضع دائماً في حال حضور أيّ شخص من ادارة السجن. هكذا تنعزل حواسك عن جسدك ليترك جسدك في مهب القوى الظالمة.

وفور الوصول تكون «التشريفة» بانتظارك، والتشريفة هي 400 كرباج يتلقاها جسدك المزروع في دولاب مطاطي لا يتسع لجسدك المكتنز. أما الكرباج فهو كابل نحاسي رباعي مجدول. هكذا هي البداية بعد أن يُنتف شاربك لتتخلص من آخر ملامح رجولتك الشرقية. فأنت هنا حشرة ضارة لا تستحق سوى الدعس بالأحذية!

فرز السجناء

ويتمّ فرز السجناء تحت أيدٍ خبيرة، لتتلقى الزنازين بعض الأجساد الذي ما زال يحمل روح الحياة بتمرّدها، فيما الأجساد المتعبة مصيرها المهاجع. أما إذا كنتَ من أنصار روح الحياة فتكون الجدران الصماء والظلام الكثيف رفيقيك في رحلتك الممتدّة من موتك الى موتك كل لحظة.

وأكثر ما ستحنّ اليه هي زنزانتك الحنونة الرؤوفة عندما يقتلعونك كل يوم لتمضي الى المرحاض في رحلة يومية، يكون فيها جسدك شبه العاري، فتمرّ في خندق طويل يمتدّ من زنزانتك الى المرحاض، تتلقّى الكرابيج من ثلّة من السجّانين يصل عددها الى نحو العشرة. سوط يدفعك وسوط يستقبلك، والويل لك إن تأخّرت في الجري.

الحال كذلك في الرحلة الاسبوعية الى الحمّام حيث يعطونك قليل من «السلفات» بعد أن تكون قد مددت رأسك من فتحة الباب ليقوم أحدهم بجزّ شعرك وذقنك بماكينة لا تصلح لجزّ وبر الحيوانات. يُدهن جسدك بمادة «السلفات» لمقاومة الأمراض المعدية.

بجسدك العاري تمضي في تلك المسيرة بين السياط ليكون لك لحوالى الثلاث دقائق شريط رقيق واهن من الماء البارد تزيل فيه آثار جسدك المتعب. هكذا تكون الزنزانة حتماً أمك الحنون تحتمي بها بعد عودتك من رحلتك اليومية.

أما إذا تمّت مناداتك باسمك، فتلك هي النهاية. فالعُرف المتّبع في سجن تدمر عدم مناداة السجين باسمه. الويل الويل لمَن تتمّ مناداته باسمه فذلك يعني آخر الرحلة. فعندما كان يتم تحديد إعدام فلان من المعتقلين، كانت تتمّ مناداته باسمه.

المهجع

أما إذا كان نصيبك المهجع فأنت مزوَّد ببطانية واحدة، عازل أرضي من القماش السميك ملزم بالحفاظ عليها كما ستحافظ على جسدك. فالنوم محدَّد في التاسعة مساءً، وهو يتمّ «مسايفة» أيْ وجهاً لظهر. الاستيقاظ في السابعة صباحاً حيث تلف بطانيتك وعازلك لتجلس عليهم، قدماك مضمومتان تحت فخذيك. فمن غير المسموح المشي في المهجع أو الانتقال من مكان الى آخر إلاّ خلسة كما هي حال في الذهاب الى المرحاض.

في أيّة لحظة قد يصدر أيّ صوت عن المهجع، يقوم السجّان برمي قطعة خشبية على أرض المهجع، فيكون لزاماً على مرتكب المخالفة أن يخرج بها بعد السابعة مساءً ليسلمها الى السجّان، يتلقّى عقابه، الذي هو في العُرف 200 جلدة.

كثيراً ما يكون العقاب من نصيب رئيس المهجع، وهو أحد المعتقلين تمّ اختياره عشوائياً ليكون رئيس مهجع. عليه أن يحدِّد مرتكب المخالفة، فلك أن تتخيّل حالة هذا المعتقل الذي يبدو ظاهرياً، كأنه هو مَن يحدِّد الضحية فمن غير الممكن أن «يتبلّى» رئيس المهجع أحد رفاقه في حال كون المخالفة غير واضحة، أو في حال كان المخالف في وضع صحّي دقيق، فيتلقى العقوبة بدلاً عنه. وعادة ما تتمّ العقوبة في ساحة السجن الداخلية.

الحياة اليومية في السجن رتيبة، مملّة، قاتلة، لا إنسانيّة. فمع الاستيقاظ يبدأ عذابك الأبدي، الحصار الذي لا ينتهي، حصار داخلي، حصار خارجي في الحياة الجماعية في المعتقل يكون الآخر عذاباً فوق عذابك. ينسحق كيانك في معمعة الآخرين، يبدأ الانسحاق الروحي والمعنوي فوق عذابات الجسد.

يبدأ النهار بترتيب البطانيات، تنظيف المهجع، يتم ذلك بالتناوب من طريق الدور «السخرة اليومية»، فمن ترتيب المرحاض في فسحة الحمام ثمّ إدخال الطعام وتوزيعه، غسل الأواني، رمي الزبالة.

أما في الفترات التي تسمح فيها ادارة السجن للمعتقلين بالتنفس، فيتمّ ذلك في باحة السجن الداخلية الشبيهة بمقابر المصريين القدماء حيث يخرج الجميع لمدة نصف ساعة على شكل طابور دائري يدورون بصمت، الرؤوس نحو الأسفل. فمن قواعد سجن تدمر عدم رفع الرؤوس سواء للنظر الى وجه السجّان أو أيّ أحد آخر من ادارة السجن.

طعام سيّئ

يتمّ توزيع الطعام عادة في العاشرة صباحاً، وهو يتكوّن من ثلاثة أرغفة صغيرة كمخصّص يومي مع شيء لا يُذكر من اللبن أو البطاطا أو المربى أو الزيتون كوجبة إفطار. والعشاء يكاد لا يكفي ربع العدد الموجود في المهجع.

أمّا وجبة الغداء فهي على التوالي، إما كمية من البرغل أو الأرز مع سائل أحمر لا يُعرف له اسم، أو مكوّن خال طبعاً من أيّ شيء من الخضروات أو اللحوم أو الدسوم ناهيك بإعداده السيّئ جداً.

إضافة الى ذلك يكون دوماً بارداً، ما يؤدّي الى الاصابة بحموضات في المعدة تصل الى حالات من القرحة المستديمة. أما أمراض الجسد العادية في السجن، فهي حالات الامساك المزمنة نتيجة للأكل الجاف والبارد ثمّ حالات الحموضة وتوابعها من القرحة، والتهابات القولون، إلى الالتهابات الجلدية على انواعها، البواسير، البروستات، فقر الدم، الهزال، أمراض البصر، الأمراض النفسية والعصبية.

هذا اذا استثنينا الحالات المرضية التي تحدث أثناء فترات التعذيب في فترات التحقيق الأولى: شلل، خدر في الأطراف، فقدان أحد الحواس وهي غالباً «السمع»، تهتكات في القدمين والساقين»، تمزّق الأربطة، تلف في الأنسجة، تشوّهات في أظافر اليدين والقدمين، ندوب، كدمات مزمنة سواء من التعذيب بواسطة الكهرباء أو بالوسائل الأخرى على مختلف أنحاء الجسد خصوصاً الأعضاء التناسلية.

اضافة إلى حالات الاغتصاب سواءً للرجال من المعتقلين أو النساء بوسائل طبيعية أو اصطناعية مثل ايلاج الزجاجة في مؤخرة الرجال من المعتقلين، أو اغتصاب النساء من المعتقلات مع ما يرافقها من انتهاكات جسدية كانت أم نفسية.

كلّ ذلك، ليس في عُرف سجن تدمر أو قوانينه ما يسمح بمعالجة مثل هذه الحالات، فليس من الوارد مطلقاً أن تتقدم بطلب لزيارة الطبيب، إلّا كانت عقوبة 200 كرباج في انتظارك. الحلاقة والحمام في تدمر يأتيان في سياق التعذيب إذ يُؤمر المعتقل بالجثو أمام الحلاق، الذي هو أحد جلاّدي السجن أساساً، ويستخدم هذا «الحلاّق» شفرة جارحة مع الضرب والشتم، وغالباً يصيب الحلاق المعتقل بجروح غائرة في الرأس والوجه والرقبة.

أما الحمّام فيخرج المعتقلون إلى باحة السجن، وينهال عليهم الجلاّدون بالضرب والجلد، وهم يسوقونهم في صفوف إلى مقصورات، ويفرّقونهم في مجموعات تضمّ كل واحدة نحو ستة معتقلين، يُوضعون تحت رشاش يطلق ماءً بارداً، فيما يقومون بنزع ملابسهم.

كما أنّ امكانية استحضار أدوية من خارج السجن من طريق الأهل فمعدومة لسبب بسيط كون الزيارات ممنوعة بتاتاً. باستثناء بعض من الحالات المنفردة التي تأتي عبر وساطات غالباً ما تتمّ من طريق الرشوة.

كما أنّ مجرد تسريب خبر بأنّ أحد المعتقلين موجود في سجن تدمر كاف بالنسبة الى كثيرين من الأهالي الذين لا يعرفون شيئاً عن مصير أبنائهم المفقودين لأن يقدّموا الهدايا والرشاوى الثمينة، بالاضافة الى كون سين أو عين من المعتقلين لا يزال على قيد الحياة كفيلاً بأن يدفع أهله الغالي والنفيس من أجل ذلك.

لكنّ ذلك ليس كلّ شيء، فالعيش في سجن تدمر بحدّ ذاته هو وسيلة من وسائل التعذيب. فهناك المناخ الصحراوي، والحرارة الشديدة صيفاً والبرودة شتاءً، والأبنية المهترئة والمعشّقة برائحة الدماء والعفونة تزيد من مأساوية الموقف، عوضاً عن الظروف المقصودة من القائمين على السجن أو تلك غير المقصودة بسبب الحقد على السجناء، كلّ ذلك يجعل من بقاء المعتقل على قيد الحياة في حدّ ذاته انتصاراً.

يطول الكلام… الستارة لم تُسدل بعد على فصول المأساة، فالمشهد لم ينتهِ بعد، طالما لا يزال مصير بعض المعتقلين اللبنانيين مجهولًا في زوايا زنازين معتمة، رطبة، ربما يكون بإنتظارهم «جهنّم» آخر مع زمرة «داعش» وأخواته.