جلسات الموازنة خلت، مع استثناءات محددة، من النقاش العميق والدقيق في السياسات المالية والاقتصادية. وليس ذلك خارج التوقعات ومن دون أسباب ومبررات. فهذه هي المرة الأولى التي يناقش فيها المجلس النيابي الحالي موازنة خلال عمره الطويل، الأصلي والمفترض بالتمديد. وبين النواب المخضرمين مَن نسيَ مناقشة الموازنات. وبين النواب الذين دخلوا المجلس للمرة الأولى بعد إنتخابات العام ٢٠٠٩ مَن لا خبرة له في الشؤون المالية والإقتصادية، وسط تركيز اهتماماته على اللعبة السياسية ومطالب منطقته عشية موسم الإنتخابات. وليس في الموازنة تصوّر مالي واقتصادي للحكومة. إذ هي مجرد تسجيل لأبواب النفقات والواردات يقلّ المرصود فيها للمشاريع الإستثمارية عن عشرة في المئة من أرقامها، والبقية لخدمة الدين العام والرواتب وخسائر مؤسسة الكهرباء وأبواب أخرى معظمها نوع من الهدر. فضلاً عن ان المجلس يناقش قبل شهرين من نهاية ٢٠١٧ موازنة لعام تم الإنفاق فيه على القاعدة الإثني عشرية.
ومن المهم ان ترتفع أصوات معارضة لمخالفة الدستور، ولو بالتفاهم السياسي، عبر إقرار موازنة ونشرها من دون قطع حساب. لكن من المهم ايضاً تقدير الظروف التي تفرض احياناً في الأزمات تقديم المصلحة العليا للبلد على التمسّك الحرفي والتقني بالدستور لمدة محددة. فالكل يعرف صعوبة تعليق المادة ٨٧ من الدستور بطريقة دستورية، وماذا يعني رفض اقرار الموازنة قبل الموافقة على قطع الحساب. انه ببساطة البقاء بلا موازنة للسنة الثانية عشرة والى سنين عديدة مقبلة، لأن هذا ما حال دون اقرار الموازنات بعد موازنة العام ٢٠٠٥.
وما حدث، ولو بالمونة الموقتة على الدستور، هو قطع مسلسل اللاموازنات وبدء العودة الى الدفع الطبيعي. وهو مخالفة دستورية مفيدة، بعد مخالفات مضرة تكررت، وبينها ما قاد الى الشغور الرئاسي، والتمديد للمجلس، والتسليم الواقعي بما ينزع ابرز سمات الدولة والسيادة والديمقراطية، اي ان تكون الدولة محتكر العنف الشرعي.
والسؤال ليس فقط ان كان مشروع موازنة العام ٢٠١٨ سيتضمن رؤية مالية واقتصادية للحكومة بل ايضا ان كان هناك تصور لبدء ايفاء الدين العام ضمن برنامج زمني أو اقله وقف تزايده السريع سنويا. فالتخوف حقيقي من ان يصبح لبنان في حال اليونان بعدما وصل العجز في الموازنة الى ٧.٥% من الناتج المحلي الذي وصل الدين العام الى ١٤٣% منه. وليس للبنان من يلتزم مساعدته بشكل كامل، كما ساعد الاتحاد الاوروبي اليونان، ولو فرض عليها أقسى سياسات التقشف المالي والاقتصادي. لكن الخطر يحمل فرصة، ولبنان وجد فرصا في اخطار كثيرة.