IMLebanon

حرب لا وجه لها

انتقاء نص قديم عن الحرب اللبنانية يلزمه التبرير. فما كتب قد كتب، وفات زمانه، وما قيل عن الحرب قد استهلك تفسيراً لأسبابها والعوامل التي مهَّدت لانفجار الصراع. غير أن بعض ما كتب، سلَّط الأضواء على عناوين ظلت بعيدة أو مستبعدة عن التداول، منها، طبيعة العنف الميلشيوي وآلياته وأهدافه، والعنوان المقتبس من هذا القبيل، يتجرأ على السؤال: «حرب بلا سبب؟». في كتاب «لبنان المعاصر.. تاريخ ومجتمع» للدكتور جورج قرم، فصل عن «الاستقلال المستحيل»، ولقد بدا أن لبنان، الذي عبر المراحل الكبرى من الأزمة السورية، هو سلسلة من الأخطاء والاخفاقات والانكسارات عبرت عنها أحداث متلاحقة بقيادات فاشلة وانتهازية، مصحوبة بثقافة رائجة، هي ثقافة الفتنة.

النص المقتبس من هذا المؤلف، يتحدث عن العنف وضحاياه، وآليات تدمير الإنسان وإلغاء الأوطان… وهنا مقتطفات من فصل بعشرات الصفحات:

خلال الخمسة عشر عاماً من العنف الذي أصاب لبنان بين 1975 و1991، بدا موت أي لبناني وكأنه حدث خيالي أو على الأقل غير أكيد، خيالي لأن اللبنانيين كانوا دائمي التنقل: فقد اعتاد الناس رؤيتهم أثرياء في باريس، ولندن وجنيف في الأوساط المالية العالمية الرفيعة، وفي عالم التجارة الدولية والترويج العقاري. فكان بالتالي من الصعب التصور بأن هذا اللبناني عينه ينتمي إلى أحد تلك الشعوب الضحية لنهاية هذا القرن العشرين العصيب. غير أكيد لكون موت اللبناني، مهما بذلت من جهود، لم يكن قابلاً للتفسير المقنع: فقد لاقى اللبنانيون حتفهم بأساليب مختلفة، ولدوافع عديدة وبواسطة أعداء متنوعين من الخارج كما من الداخل. لقد كانوا ضليعين في شق طريق الموت أمام العديد من الشعوب والجماعات، في البلقان، وأفغانستان والشيشان.

إن الأزمة اللبنانية، التي انطلقت العام 1968، وتفجرت بقوة العام 1975، تم احتواؤها بشكل لافت من قبل أطراف النزاع الإقليميين والدوليين، برغم العديد من الهفوات التي أدت إلى تعذيب لبنانيي الظل، أولئك المجهولين الذين لا يعرفهم أحد بسبب براءتهم. فهم لم يقطنوا في الأحياء الراقية في باريس ولم يختلطوا بعظماء من رجال المال أو السياسة، وهم إلى ذلك لم ينتموا إلى أي تنظيم محارب. أما ذنبهم الوحيد، فكان إصرارهم اليومي، المسالم، على العيش على أرضهم، محاولين تجاهل وجود مرتزقة الداخل والخارج الذين عاثوا العنف والرعب في هذه الأرض التي ما فتئت تسيل فيها الدماء خدمة لمصالح الآخرين. لبنانيو الظل هؤلاء كانوا الضحايا الذين لم يتكلم عنهم أحد، في الوقت الذي كانوا فيه مثالاً يحتذى للمقاومة السلمية في وجه تحالف من المعتدين ـ الحماة، المقنعين بأقنعة عديدة وكثيرة التقلب. كانوا الطرائد المفضلة للقناصين المقنعين، المتربصين على سطوح البنايات والذين أصبحوا يكرسون الانحراف الأخلاقي. كما كانوا ضحية للسرقات والابتزازات من قبل الميليشيات والعصابات والمسلحين الذين شقوا البلاد تحت راية مثل عليا مختلفة، تميّزت بها النهاية البشعة للقرن العشرين. وخُطفوا وعُذبوا، وقطعت أوصالهم بالمئات من السيارات المفخخة.

في هذا الإطار، شكل الموت على الطريقة اللبنانية دلالة على سخافة القيم التي عشناها طيلة النصف الأخير من القرن الماضي. بندقية القناص والقذيفة من عيار المئة وخمسة وخمسين التي استعملت في معارك الأحياء، وقنابل الطيران الإسرائيلي، كل ذلك استعمل تحت شعارات مختلفة: حماية المسيحيين والأقليات، الصحوة الإسلامية، تكريس الصهيونية، انتشار الماركسية، الدفاع عن العروبة والإسلام…

كان الاهتمام بالدم اللبناني، ودماء لبنانيي الظل، يعني فتح ملفات عدة دفعة واحدة، في حين كانت الأنظار متجهة إلى معسكرات العمل الإجباري في الاتحاد السوفياتي (Goulag) والمقاومة الأفغانية وعمامات طهران والحروب الأهلية في أميركا الوسطى، وهي قضايا كانت جميعها قابلة لأن تثير العواطف، كونها تقع في «سياق التاريخ».

كان من الخطير التعبير عن القلق إزاء لبنان، إذ كانت تصعب معرفة من يقف وراء كل موت لبناني: إسرائيلي، سوري، فلسطيني، كتائبي، أحد الإخوان المسلمين، الألوية الحمر اليابانية، عصبة بادر الألمانية، المافيا، عميل ليبي أو سوفياتي… لم تكن الحرب اللبنانية إحدى تلك الحروب الأهلية الدامية ولكن المحدودة من حيث المكان والزمان، حيث يتقاتل الأخيار والأشرار بوجه مكشوف، وحيث يمكن لأي كان أن يختار بكل ارتياح الجهة التي يريد تأييدها. كانت هذه الحرب الأهلية حرباً من دون وجه، برز فيها الموت بأقنعة مختلفة. وهي لم تتضمن ترف السجون والمحاكمات والإعدامات التي تعتبر إضافات ضرورية لحشد اهتمام الصحف تحت شعار الدفاع عن حقوق الإنسان.

كان الموت في لبنان الحدث الغريب المجهول الهوية، موت ذلك البرجوازي الهادئ، الجالس في صالونه الوثير، والذي تحول رماداً في مقعده بفعل صاروخ دخل عبر نافذته، أو موت موزع أرغفة الخبز على دراجته في الخامسة صباحاً، والذي حوله القناص إلى لوحة تدريب قبل أن يبدأ نهاره، أو موت تلك العائلات المسكينة المكدسة في أبنية سيئة الإنشاء انهارت تحت قصف القنابل الإسرائيلية أو بفعل التفجيرات بالديناميت حيثما تم تخزين الذخائر، أم موت راكبي سيارة أجرة أخرى قامت دبابة إسرائيلية بدهسها أو معسها على حائط صخري، أو موت تلك العائلات القروية الفقيرة التي عثر على أفرادها صباحاً، مذبوحين من دون أن يعرف السبب أبداً. الموت في لبنان، كان كل تلك الجثث المجهولة، يتم العثور عليها يومياً تحت الجسور أو في الأحراج. إلى كل هؤلاء، لا بد أن نضيف أولئك الذين لاقوا حتفهم لسبب وحيد هو أن بطاقات هويتهم تشير إلى انتمائهم إلى طائفة لم ترق أولئك المجانين الذين تولوا في أحياء بيروت وعلى طرقات الجبل مهمة ضبط «الأمن».

في الحرب، يعتبر من الخطر الكلام من دون كراهية عن الآخرين، عن الفريق المقابل، في الجهة المقابلة من المتراس. من يقومون بالحرب، ويقتلون، وينهبون ويدمرون، لا يتحملون أبداً تفهّم الآخرين وتقبّلهم، فعندها لن يعود لمسلسل القتل أي معنى. ماذا يمكن القول عن حرب لا هدف لقادتها، من لبنانيين وغير لبنانيين سوى قتل العدد الأكبر من المدنيين العزل وتبرئة المسؤولين المدنيين والعسكريين. وبرنامجها كان كالتالي: قصف، قنص عبر سطح أحد المباني، خطف وتعذيب وقتل أناس أبرياء لم يطلبوا سوى الاستمرار بالعيش المشترك مع الآخر، تلك الصيغة التي لم تتح الفرصة لمعرفتها إلا للقليل من الشعوب.

لم تكن حرباً لدوافع حقيقية، ولم تكن معركة بطولات حربية حيث يمكن التفكير، من قبيل العزاء، بالموت أو التعرض للإعاقة في سبيل الكرامة والنصر، بل كانت سلسلة مستمرة من المجازر، بالجملة أو بالمفرق، وبوسائل عدة، لشعب بريء وقع في شباك الفرق المسلحة التي تدعي الدفاع عنه وتحريره. أكان ذلك بالقنابل الانشطارية الأكثر حداثة أم بالخنجر البسيط، مروراً بجميع عيارات القذائف والبنادق الحديثة والرشاشات المتطورة، إضافة إلى الأعداد الهائلة من السيارات المفخخة. وقد دفع اللبنانيون بالمفرق من دمهم ثمن هذه الإبادة الجماعية التي أرهق منظرها أعين العالم أجمع طيلة خمسة عشر عاماً.

شكل الخوف من العقاب الجسدي العنيف عاملاً مهماً عند أغلبية اللبنانيين، إذ بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً عن الاعتداءات التي تعرضت لها شخصيات سياسية مستقلة عدة، فقد تعرض العديد من المواطنين العاديين للاغتيالات او الاعتداءات الجسدية، او إنهم اختفوا بسبب انتقادهم لسلوك أحد زعماء الميليشيات. وغالباً ما كانت تتم تصفية أفراد الميليشيا بالرصاص إذا ما رفضوا تنفيذ مهمات كريهة.

لقد أبدى اللبنانيون، أشكالاً عدة من المقاومة البطولية غير العنيفة للنظام الميليشيوي وأعماله التقسيمية، وهذا أمر لا يتم الكلام عليه بكثرة، بينما المطلوب هو التشديد عليه. إنما لا بد أيضاً من التذكير بحالات من الإثارة الطائفية المعممة. وفي الواقع، إن اللبنانيين، المأسورين في الغيتوات، المقموعين بالكثير من مظاهر العنف اليومي، والخاضعين لغسيل الدماغ الذي تمارسه وسائل الإعلام الميليشيوية، ظهرت عليهم، في أكثر من مرحلة ما بين 1975 و1990، مظاهر الهيستيريا الجماعية. وهذه المظاهر غالباً ما كانت مشجعة من تدخلات وأحداث خارجية: إسرائيل وادعاؤها «الدفاع» عن «الأقلية المسيحية»، إيران الخميني وعلاقتها المميزة بالطائفة الشيعية، أحزاب اليمين الفرنسي الداعمة «للمسيحيين» باسم أسطورة الصداقة التي تعود إلى عهد الصليبيين، الخوف «المسيحي» من الفلسطينيين والسوريين ومن ثم الرفض «الشيعي» للفلسطينيين…

إن مظاهر الهيستيريا هذه قد ساهمت فعلاً في تكريس الصفة التمثيلية الطائفية للميليشيات، وبخاصة لدى الرأي العام الدولي. اتخذت هذه الظواهر، على الصعيد المحلي، طابعاً موقتاً، فعندما تخف نسبة العنف، يميل الرأي العام، داخل الطوائف، إلى الاعتراف بأن الميليشيا أو الميليشيات ما هي إلا عميلة للقوى الإقليمية، وأن أفعالها ما جلبت إلا الكوارث للطائفة أو للطوائف بتعريضها للمجازر وللتهجير القسري.

لكن الخوف استمر، بصورة دائمة، حائلاً دون التعبير الواضح والمباشر عن هذا الرأي. في محاولات التعبير دون كثير مجازفة، كانت الاتهامات توجه إلى القوى الخارجية حيناً، وإلى «الطائفية» حيناً آخر، دونما تسمية. أما الإدانة المباشرة للمسؤولين المحليين فظلت مستحيلة. التشهير الوحيد المسموح به من قبل النظام الميليشيوي، والذي كان فصلاً من اللعبة، هو التشهير بطائفة بمجملها وبزعمائها. ومن غير المسموح به أبداً التشهير «بأمراء الحرب» أو تحميلهم مسؤولية تدمير الدولة وارتكاب الجرائم الجماعية. لذا، فإن العديد من الحركات الاحتجاجية الجماعية طوال هذه السنوات ـ إضرابات نقابية، مسيرات احتجاج، اجتماعات لجمعيات أهلية مناهضة للحرب أو مؤيدة لحقوق الإنسان ـ لم تجرؤ على تحميل المسؤولية المباشرة لقادة الميليشيات. واقتصر الأمر على تحركات «من أجل السلام» وضد «عجز الدولة»، ومع «المصالحة الوطنية»: تحت طائلة تعريض أمن المشاركين للخطر، لم يكن باستطاعتهم الذهاب إلى أبعد من هذه الشعارات العامة.