رمت فرنسا بحجر ثقيل في مستنقع الانتخابات الرئاسية اللبنانية. وبينما كانت الأنظار تتّجه إلى ميدانيات الحدود، وأزمة العسكريين المخطوفين، خطفت باريس الضوء عبر إطلاقها مبادرة رئاسية، تهدف إلى فكّ عقدة المرشّحين الممنوعين من الوصول إلى بعبدا، أي رباعي مرشحي الصف الماروني الأول، التي اعتبرت بكركي أنّهم الأحق بكرسي الرئاسة.
كان من المفترض أن يكون اهتمام باريس مصبوباً على صفقة التسلح وملياراتها الثلاثة، أو مليارها الأخير، خصوصاً أنّ المتصرّف بالهبتين السعوديتين، الشيخ سعد الحريري، مقيم بين العاصمتين السعودية والفرنسية، وهو مستعد لتذليل العقبات المالية واللوجستية التي قد تؤخّر تنفيذ عقود التسلح، وهذا أمر حيوي، إذ لا يعلو صوت فوق صوت المعركة. وعليه، بات، من باب الترف الفكري، البحث في مسألة الرئاسة اللبنانية الأولى، التي وضعها مرشحوها خلف حائط شاهق وسميك، يستحيل عبوره إلّا من خلال حفّارات دوليّة وإقليميّة.
باريس ارتأت أن تكون في طليعة تلك الحفارات. ففرنسا معنية بالأزمة اللبنانية، وهي لم تكتسب لقب «الأم الحنون» عن عبث. فتاريخها من الإرساليات إلى الانتداب وما بعده، يضعها في موقع الفاهم للتفاصيل اللبنانية. ولكن هل يكفي الفهم الفرنسي، المبني على قراءة في دفاتر قديمة، لحلّ أزمة بحجم الأزمة الرئاسية؟ وهل التوقيت مناسب الآن، لسلوك مسار يوصل المرشح المحظوظ إلى بعبدا؟
طبعاً، باريس مزهوّة بانجازاتها. هي قوّة عظمى في شمال أفريقيا ووسطها وغربها. وعاصمة الأنوار، تمنع عن روسيا المتعاظمة شأناً، سفينتين عسكريتين ضروريتين لأسطولها، بعدما قبضت ثمنهما بالعملات الصعبة. وباريس أيضاً، حرّرت آخر رهائنها في مالي، لتصبح بذلك من أولى الدول العظمى التي استعادت كل مخطوفيها في العالم.
مع هذا الرصيد، تستطيع باريس أن تغطس في المستنقع الرئاسي. وتستطيع، تالياً، أن تتوقّع نجاحاً ما. ومن الطبيعي أن يهلّل اللبنانيون للمبعوث الفرنسي، من باب حسن الضيافة، وعلى قاعدة «كل فرنجي برنجي»، وكذلك الشعور بالحاجة الملحّة إلى ملء الفراغ الرئاسي الذي صار أصل العلّة.
ولكنّ التهليل اللبناني لا يكفي كي يُنضج المسعى الفرنسي لحل أزمة الفراغ الرئاسي. وقصر بعبدا معقّد بما يكفي، كي لا يكون جائزة كاملة لجهة واحدة. وإذا كانت لكرسي الرئاسة أربع أرجل، ففي الحالة اللبنانية، لكل رجل أربعة مساند.
باريس تقول إن «الفراغ الرئاسي في لبنان يُقلق فرنسا والعديد من الشركاء». الفراغ مُقلق، ومسألة لا يجوز أن تؤخذ بخفّة، خصوصاً أنّ مستقبل المسيحيين في الشرق بات مرتبطاً باستمرار الفراغ المذكور. وفي معرض الحديث عن الخفة، لا بدّ من سؤال: من هم شركاء باريس المعنيون بالفراغ؟ بحسب التلميح الفرنسي، الشريك هو إيران، أي الدولة التي ضغطت فرنسا لتمنع تعبيد الطريق أمام اتفاقها النووي مع الغرب. الملفان غير متكافئين، ولا أحد يتوقع أن تعطي إيران هنا لتأخذ هناك. وطبيعي أن موظفاً في وزارة الخارجية الفرنسية، ولو كان رفيع المستوى، لا ينتخب رئيساً في لبنان. المكتوب يُقرأ من عنوانه، والمساعي الفرنسية الحوارية أو التسوية، لم تتجاوز ولن تتجاوز السياحة والمآدب. لكن ذلك، لا يمنع تسلية فرنسية في الوقت الضائع.