Site icon IMLebanon

موجة احتجاج من شأنها أن تُعيد إلى الضوء دور “المرجعية” في إيران

 

انصبّ التركيز في الأيّام الماضية على موجة الإحتجاجات التي انتشرت في أنحاء ايران، انطلاقاً من مدينة مشهد. انصبّ التركيز، بل “تاهَ” نوعاً ما، بين مستعجل في رؤية الموجة كحالة إنتفاضية مزمنة ومدخل عريض لأزمة أهلية إيرانية مفتوحة، وما بين مستعجل لرؤية هذه الموجة كأنّها لم تكن، وإخمادها في أسرع وقت.

 

في الحالتين، ثمّة منحى لنفي وجود انقسامات حادّة في الداخل الإيراني، ليس بين “شعب” و”نظام” كما يريد المستعجلون في رفعها إلى منزلة إنتفاضة، بل ثورة، وليس بين “ثورة إسلامية” و”ثورة مضادة” كما يريدها أركان النظام الإيراني. ينقسم الإيرانيّون بالأحرى بين من ينطلق من أرضية الثورة الإسلامية، محافظاً أو إصلاحياً كان، وبين متشككين أو متفلتين من هذه الأرضية. لا يمكن تقدير حجم هؤلاء، لكن ما يمكن تقديره بالفعل أنّهم شباب ولدوا بعد الثورة بسنوات طويلة، وبعد رحيل الإمام الخميني، وهم بالتالي يختلفون تماماً عن معشر من دهسهم قطار التاريخ، من شاهيين و”مجاهدي خلق”، حتى لو تسرّبت شعارات هؤلاء إليهم.

 

يختلف شباب موجة الإحتجاجات الحالية أيضاً عن الحركة الخضراء لعام 2009، التي جاءت على خلفية المطاعن في نتائج الإنتخابات الرئاسية بين محمود أحمدي نجاد ومير حسين موسوي، بل أنّ قسماً من الذين تصدّوا لوحدات “الباسيج” في الحركة الخضراء قبل تسع سنوات يتعامل بإحتراز، إن لم يكن بسلبية، مع الحراك الحالي، مثلما أنّ قسماً من الذين خاضوا المواجهات، التي اتسمت بطابع الخشونة المتبادلة هذه المرة، يأتون من شرائح ميّالة، في وقت من الأوقات، أو حتى الآن، إلى “النغمة التشافيزية”، التي عبّر عنها، في أيّامه، وليس من دون مزجها بشيء من “المهدوية الحجتية” الإستعجالية لعلامات ظهور القائم، الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. بل أن الصحافي في “لوموند” الفرنسية لوي امبرت يرى أن الاحتجاج تطور في بيئة المحافظين بداية، ثم خرج عن السيطرة، مثلما يراه حراكاً بلا قيادة، تفشى خصوصاً في الأقاليم البعيدة عن المركز، وهو ليس فقط، بالنسبة لامبرت يختلف عن انتفاضة 2009 التي اتسمت بمشاركة الطبقة الوسطى المدينية، بل أن هذه الطبقة الوسطى المدينية مهتمة، بازاء الحركة الحالية، بعدم خسارة مكتسبات تعتبر أنها حصّلتها نوعاً ما، مع وصول حسن روحاني إلى الرئاسة.

 

بيد أنّ ملاحظة حالة “الإنشقاق” الشبابية الطرفية الخشنة هذه عن أرضية الثورة الإيرانية الكبرى ينبغي أن لا تستتبع بمجاراة هذه الحالة في وصمها كل التيارات المنخرطة في التجربتين البرلمانية والحكومية بعد الثورة، على أنّها من نسيج واحد. صحيح أنّ التمييز بين “اصلاحيين” و”محافظين” لا يكفي لوحده لتفسير الحياة السياسية الإيرانية، لكن اعتبار أنّ كلّ هؤلاء مثل بعضهم البعض فيه مقدار من التعسّف. كذلك التعسّف في اعتبار نظام الحكم معدوم الشرعية، في حين أن لديه رصيده من الشرعية الشعبية، وشكله المتصدّع لكن المراوغ في تماسكه أيضاً، من الشرعية المؤسساتية.

 

مشكلة “نظام السلك” القائم في إيران هي في غلوه بالإعتماد على الشرعية الكاريزماتية، وتأففه هو، في مستوى معين، من شرعيته الشعبية والمؤسساتية. لقد تكلم عالم الإجتماع الألماني الأبرز مطلع القرن الماضي، ماكس فيبير، عن الشرعية الكاريزماتية، كما تكلّم في غير موضع عن مفارقات اتخاذ هذه الشرعية الكاريزمية طابعاً يومياً وروتينياً، خصوصاً مع الإنتقال من مؤسس الحالة إلى من يخلفه. الكاريزما هنا لا تعني درجة شعبية أو محبوبية الرجل، بل نوع علاقة إيمانية عضوية إنخطافية به، وإحتلال صاحب الكاريزما مكانة محورية حتى المخيلات والأفئدة. هذه الهالة استطاع تأمينها الإمام الخمينيّ، إن في محيّاه، أو في ظهوره بمظهر “الملك الفيلسوف” بالمعنى الأفلاطونيّ للكلمة، وفرضت هالتها نفسها على الجميع، أنصاراً وأعداء، في الداخل والمحيط والعالم، لكنه لم يكن سهلاً انتقالها إلى خلفه المرشد الحالي علي خامنئي، خاصة وأنّ الزمن صار ممتداً أكثر بكثير مع الأخير، وعملية “التنميط اليومي للكاريزما” (وهي مفارقة بحد ذاتها، عند ماكس فيبير، ذلك أن الكاريزما بحد ذاتها تخالف التنميط). تسعة وعشرون عاماً على رأس “الجمهورية الإسلامية”، عاصر خلالها أربعة رؤساء جمهورية منتخبين بالاقتراع العام في انتخابات تنافسية حقيقية (رفسنجاني وخاتمي ونجاد وروحاني).

 

والأهمّ، إذا ما عدنا لكتاب كونستانس ارمينجون “التشيع والدولة. رجال الدين على محك الحداثة” (2013) أنّ حركة “التنميط اليومي للسلطة الكاريزمية” تواجهت في ايران مع ازدواجية الهالتين، هالة ولاية الفقيه الواحدة، وهالة مرجعيات التقليد المتعددة. تولّى علي خامنئي ولاية الفقيه قبل ست سنوات من تحصيله المرجعية، فلم يحدث هذا الا بعد رحيل آية الله محمد علي آراكي (1994). تعتبر ارمينجون أن المراجع انقسموا في ايران منذ ذلك الوقت بين دعاة انسحاب من المجال السياسيّ، وبين متبرّمين من نظرية ولاية الفقيه المطلقة الشرائط (أو ساعين لاستبدالها بنظرية مجلس الفقهاء)، وبين دعاة لإصلاح نظرية ولاية الفقيه من داخلها (وعينهم على الاستحقاق الذي يطرح نفسه في مرحلة ما بعد خامنئي). كذلك ترى ارمينجون أنّ تحكم نظام السلك بقيادة الولي الفقيه بالمرجعية أضعفها في ايران، في حين قواها في العالم الشيعي غير الايراني.. بالتوازي اذن، مع ازدياد نفوذ ايران السياسي والهوياتي لدى الجماعات الشيعية خارجها.

 

أهمية كتاب ارمينجون، الجدير بـ “مذاكرته” اليوم، أنّه لاحظ من جهة، أن مشكلة كبار المدرّسين في قمّ مع قنوات التحكم الدولتية التي يقودها خامنئي هي أنّ هذه القنوات تريد أن تفرض “تحديثاً” تقنياً وإدارياً وتربوياً، وهم بالتالي أكثر تقليدية، وفي المقابل، المرجعية المتعددة، بازاء ولاية الفقيه، عادت فتطورت، خصوصاً خارج ايران، كمجموعة شبكات اجتماعية موازية، وعابرة للحدود، ومستعينة على طريقتها بأسباب التحديث ووسائطه.

 

لا علاقة مباشرة للحدث الإيرانيّ الحاليّ بكل هذا. إنّما النتيجة المباشرة لهذا الحدث – الموجة، هي عودة الازدهار لمفهوم “المرجعية”، أي لحيوية مراجع التقليد المتعددين، في الداخل الإيراني، أسوة بالحالة العراقية. ليست هناك معطيات كافية اليوم للذهاب الى ان “ولاية الفقيه” في خطر، لكن هناك مؤشرات الى أنّ الوضع في ايران، من شأنه أن يعود فيسمح للمرجعية في قم ومشهد بإعادة لعب دورها، المحافظ أساساً، كمحافظة على التماسك الإجتماعي. أما استحقاق مساءلة “ولاية الفقيه” فمرتبط بالأحرى بحسابات من يخلف خامنئي، وبورصة المرشّحين الأبرز لتولي المنصب من بعده.