في شهر أيلول (سبتمبر) المقبل تكون قد مرت سنة منذ إعلان الرئيس الأميركي باراك أوباما تشكيل تحالف دولي لمواجهة تنظيم «داعش» والقضاء عليه. وبعد 6 آلاف ضربة جوية وقصف 9 آلاف هدف وقتل 10 آلاف من مقاتلي «داعش»، بالإضافة إلى مختلف المعارك التي جرت في العراق وسورية، ربما تباطأ انتشار «داعش» وأصبح في موقف دفاعي على بعض الجبهات، إلا أنه تقدم على جبهات أخرى ولا يزال يسيطر بقوة على الرقة والموصل وبلدات أخرى، ولا يواجه إطلاقاً احتمال الهزيمة العامة في المرحلة المنظورة. وإذا استمرت الاستراتيجيات والاتجاهات الحالية، فستظل»دولة داعش» تمثل تهديداً وتحدياً سيكون على رئيس الولايات المتحدة القادم، وقادة المنطقة، مواصلة التعامل معه في عام 2017 وما بعده.
تشير التقديرات الاستخباراتية إلى أن نخبة مقاتلي «داعش» الملتزمة يتراوح عددهم ما بين 20 و 30 ألفاً. وربما يكون هناك ما بين 50 ألفاً و 70 ألف مقاتل إضافي من الصف الثاني انضموا إلى التنظيم في العراق وسورية لأسباب محلية أو مالية. وعلى رغم الهجمات على المنشآت النفطية، فإن «داعش» يستمر في كسب ما يقدر بنحو 500 مليون دولار سنوياً من إنتاج النفط وما يصل إلى بليون دولار من الضرائب المحلية والرسوم والإيرادات الأخرى في العراق وسورية. هذا بالإضافة إلى بليون دولار نقداً نهبها من البنوك، وآلاف القطع العسكرية والمعدات التي استولى عليها من المستودعات العسكرية التي اجتاحها. فلدى «داعش» في المدن التي يسيطر عليها في العراق وسورية ما يكفي من الموارد للحفاظ على حكم التنظيم.
ومنذ الاستيلاء على الموصل وإعلان «الخلافة» حجب «داعش» بريق تنظيم «القاعدة» في عالم التطرف الإرهابي وتوالت إعلانات الولاء له من جماعات متطرفة وإرهابية في ليبيا ومصر وتونس والجزائر ونيجيريا واليمن وروسيا.
وعلى رغم الصعود الصاعق لـ «داعش»، لا بد في الوقت عينه من وضع الظاهرة في إطارها الأوسع. فصحيح أن «داعش» هو التنظيم المسلح الأبرز اليوم، إلا انه ليس بأي حال من الأحوال الوحيد. فالتنظيم الحوثي في اليمن كان تقريباً بنفس القدر من النجاح عند اجتياحه العاصمة صنعاء والمدن اليمنية الرئيسية. ووحدات «الدفاع الشعبي» الكردية في شمال سورية تمكنت من هزيمة «داعش» في العديد من المعارك (مع دعم جوي من قوات التحالف) وتسيطر الآن على مجال واسع من الحدود السورية التركية. وميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية ذات المئة ألف مقاتل تهمش اليوم الجيش الوطني العراقي. وتنظيم «حزب الله» يهيمن على لبنان ويسيطر منذ سنوات عدة على جزء كبير من أراضيه.
فصعود «داعش» وغيره من المليشيات المسلحة الأخرى يرجع إلى ضعف وانهيار العديد من دول المنطقة، وانسداد الآفاق السياسية والمؤسسية التي تؤطر عادة التطور السياسي، وإلى انفكاك النظام الإقليمي وتصاعد الصراع ضمنه، وليس إلى وجود قدرات سحرية عند «داعش» أو غير «داعش». فما يميز «داعش» ربما ليس كونه ميليشيا فتّاكة تسيطر على أجزاء كبيرة من دولتين شبه منهارتين، ولكن ما يمثله من تحدّ كبير لنظام الدول في المنطقة ولمبادئ علاقة الدين بالدولة، ولنسيج المجتمع وللقيم الأساسية للإنسانية.
أما من منظار واشنطن، فعلى رغم أن الولايات المتحدة تعتبر «داعش» تهديداً لأمنها القومي، إلا أن العديد من المحللين لا يزالون ينظرون إلى تنظيم «القاعدة» على أنه يمثل التهديد الأكبر. فهم يقولون إن «داعش» يركز أساساً على الاستيلاء على الأراضي وضمها في منطقة الشرق الأوسط، في حين أن تنظيم «القاعدة» لا يزال يركز معظم جهوده على التخطيط ومحاولة تنفيذ هجمات على الولايات المتحدة. وقد أعلنت إدارة أوباما بوضوح في أول مطاف المعركة ضد «داعش» أنها مستعدة لاستخدام القوة الجوية الأميركية، ولكنها لن تفكر بأي انتشار كبير للقوات البرية. أما المرشحون للرئاسة من المنتقدين لسياسة أوباما فبعضهم يقول باستخدام المزيد من القوات، ولكن أياً منهم لم يقترح حرباً برية أميركية واسعة ضد تنظيم «داعش».
اعتمدت استراتيجية الولايات المتحدة على قوات برية حليفة في العراق وأجزاء من سورية. وقد أدى ذلك أحياناً إلى نتائج عكسية. فبعد فشل الجيش الوطني العراقي، فإن اعتماد الولايات المتحدة على «البشمركة» الكردية وميليشيات «الحشد الشعبي» الشيعية، ساعد على انتزاع بعض المدن من سيطرة «داعش»، ولكن أدى هذا أيضاً إلى تفاقم التوترات المذهبية والعرقية التي مكنت من صعود «داعش» في المقام الأول.
في سورية، كانت قوات «الدفاع الشعبي» الكردية هي الشريك الوحيد للولايات المتحدة كقوة فعالة ضد «داعش»، ولكن مكاسبها أثارت التوترات مع أطراف أخرى من المعارضة السورية ذات الأغلبية السنية وأثارت أيضاً مخاوف تركيا. كما أن قيام الولايات المتحدة بإجراءات عقد صفقة نووية مع إيران في نفس الوقت ألقى بظلاله على مواقف المجموعات المتضررة من سياسات إيران وحلفائها.
لا شك أن مواجهة «داعش» ستبقى أولوية للرئيس الأميركي المقبل ولقادة المنطقة. فما هي العناصر المكونة لاستراتيجية ناجحة؟
1- السياسة أولاً. إن صعود «داعش» والمليشيات المسلحة الأخرى كان نتيجة فشل الحكم وانهيار الدولة في كل من العراق وسورية. والطريق الوحيد لاعادة الاستقرار على الأمد الطويل هو إعادة بناء مؤسسات الدولة والمشاركة السياسية في كل من بغداد ودمشق. وفي العراق هذا يعني تعزيز النفوذ والتمثيل السني في الحكومة المركزية والجيش الوطني، وإنشاء حرس وطني في الولايات السنية، والاتفاق على المشاركة في السلطة والاقتصاد وعلى اللامركزية. وفي سورية يعني هذا أنه لا بد من رحيل الأسد، والتوافق على حكومة انتقالية في دمشق، يشارك فيها أطراف من النظام والمعارضة، فضلاً عن التوافق على اللامركزية الموسعة.
2- المواجهة العسكرية المباشرة. في العراق، لا بد من الإسراع في مساعدة عناصر الجيش الوطني وكذلك القبائل السنية والجماعات التابعة لها لاستعادة مدينة الرمادي أولاً، وبعد ذلك التحضير لمعركة استعادة الموصل. في سورية، اعتمدت الولايات المتحدة على وحدات الحماية الشعبية الكردية في بعض المناطق الحدودية إلا أن جهودها لتدريب وتجهيز عناصر من المعارضة السورية أصبحت مهزلة بائسة. ولكن بدعم من دول الخليج وتركيا تم تمكين المعارضة من تحقيق مكاسب في كل من الشمال والجنوب. يجب مواصلة وزيادة هذا الدعم لتمكين المعارضة من مواجهة «داعش» من جهة والضغط الفعلي على النظام من جهة أخرى. كما يجب أيضاً الانخراط في الديبلوماسية الإقليمية والدولية للبحث عن مقومات الحل السياسي في حال أدرك النظام ومؤيدوه، في مرحلة ما، ضرورة التسوية الحقيقية.
3- بناء الاستقرار الإقليمي. في حين أن الأزمات في العراق وسورية واليمن وليبيا، وصعود «داعش» والجماعات المسلحة الأخرى مرتبط إلى حد ما بظروف كل بلد، إلا أنه ليس هناك شك في أن التوتر الشديد بين إيران وجيرانها العرب والأتراك قد ساهم في إشعال حرب إقليمية بالوكالة، وانهيار الدول وإطلاق العنان للحروب الأهلية والتطرف المذهبي. وعلينا أن ننتظر لنرى إذا كان الاتفاق النووي بين دول الـ 5+1 وإيران سيجعل الأمور أكثر سوءاً من حيث سياسات وعلاقات إيران الإقليمية، أو إذا كان سيوفر فرصة للبراغماتية في طهران وفتح باب التفاوض والديبلوماسية. إذاً، مع استمرار الدفع باتجاه التصدي لسياسات إيران التوسعية في سورية والعراق واليمن وأماكن أخرى، من المهم أيضاً استكشاف سبل لإنهاء الحروب الأهلية في المنطقة، وإعادة بناء مؤسسات الدول وسيادتها، وإعادة تشكيل شرق أوسط مستقر يكون لجميع الدول والمجتمعات فيه مصلحة مشتركة في الاستقرار والازدهار.