لم يكن منتظراً من زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان مارك إيرولت إلى لبنان أكثر ممّا ظهر، وتحديداً بالنسبة إلى أزمة رئاسة الجمهورية. ومع مغادرة إيرولت بيروت، سادت قناعة واسعة لدى الأوساط السياسية اللبنانية بأن لا بوادر جدية لتحقيق الاختراق المطلوب في لبنان إلّا مع وصول إدارة أميركية جديدة قادرة على دفع التسوية السياسية في سوريا ومن خلال ذلك تحقيق الخرق اللبناني المطلوب.
كان لافتاً الموقف الأميركي الذي اتّسم بالبرودة إزاء التطورات اللبنانية الداخلية خلال الأسابيع الماضية، والتي تمحورت حول وجود فرصة لوصول العماد ميشال عون الى قصر بعبدا.
ولم تكن تلك البرودة مقتصرة على واشنطن فقط بل إنّ موسكو كان لها موقف وسلوك مُتشابهان. تلك البرودة الدولية عكستها لقاءات إيرولت في بيروت أيضاً، فالوزير الفرنسي استطلع المواقف وطلب أفكاراً ولكنّه لم يُقدم أيّ جديد.
ولكن يبقى للقائه مع وفد «حزب الله» طعم آخر، وهو ما استدعى اعتراضاً إسرائيلياً. صحيح أنّ مضمون اللقاء كان بروتوكولياً أكثر منه عملياً، لكنّ باريس تبدو حريصة على إبقاء خيط تواصلها مع «حزب الله» قائماً في انتظار الحركة الكبرى مع وصول الإدارة الاميركية الجديدة.
فمن خلال هذا التواصل تضمن العاصمة الفرنسية دوراً أساسياً لها في أيّ تسوية سياسية داخلية. وهو قال خلال لقائه وفد «حزب الله» إنّ لبنان مهمّ بالنسبة إلى فرنسا وهي ربما العبارة الأهم في اللقاء.
سأل عن سبب تمسّك «حزب الله» بالعماد ميشال عون، واستتبَع ذلك بسؤال آخر عن موقف الحزب من النائب سليمان فرنجية، قبل أن يأتيه الجواب الذي أعلنه السيد حسن نصرالله سابقاً: «هذه عين وهذه عين، ولكنّ العماد عون يتمتع بحيثية نيابية ودعم مسيحي يصل الى شبه الاجماع».
زيارة وزير الخارجية الفرنسية رسّخت القناعة لدى المسؤولين اللبنانيين بوجوب التأقلم مع الواقع لأشهر اضافية، قد تمتد الى مطلع الربيع المقبل، مع التمسّك بثابتتين أساسيتين: الاستقرار الامني وسط استعداد دولي وخصوصاً أميركي لدعم الجيش اللبناني بشكل مفتوح في اطار مهمته هذه، والاستقرار النقدي مع كل مستلزماته المصرفية والاقتصادية على رغم العَين الاميركية المفتوحة على جولة ضغط ثانية على «حزب الله» مستقبلاً ولكن عندما تتطلب ظروف المفاوضات والاوضاع الاقليمية ذلك.
في انتظار ذلك، لهيب إضافي في سوريا تحت عناوين مختلفة ووسط تعقيدات شتى: اصرار سوري – إيراني على حلب في مقابل إحجام روسي وارتباك تركي، إضافة الى فرز المناطق وترسيم حدود مناطق النفوذ وضربة غير متوقعة في اتجاه تدمر، فيما الجيش العراقي يستعد لإنهاء حضور «داعش» كـ«دولة» في آخر معاقله في الموصل.
قد لا يكون للإحجام الاميركي عن سوريا في هذه المرحلة علاقة فقط بالانتخابات الرئاسية، بل ربما ليقين واشنطن أيضاً بأنّ كل الاطراف في الشرق الاوسط تورّطوا ولم يعودوا قادرين على الانسحاب وهم يعيشون حالة استنزاف مُكلفة.
فمثلاً تَخطّت الخسائر البشرية للجيش العراقي والقوى الداعمة له في معركة تحرير الرمادي اكثر من 1500 قتيل، وفي الفلوجة اكثر من 1100 قتيل، اضافة الى اضطرار الحكومة العراقية للاستعانة بالدعم الجوي الاميركي والتقنية المتطورة ما جعلها ترضخ لدور اميركي أكبر وأكثر فاعلية مستقبلاً.
وفي سوريا، بَدا تقدّم «داعش» في اتجاه تدمر مجدداً مُرفقاً بإسقاط مروحية روسية بمثابة التهديد المباشر لهَيبة الحضور العسكري الروسي وللدور الواسع الذي تسعى اليه موسكو في الشرق الاوسط.
ولذلك مثلاً قرّرت القيادة العسكرية الروسية الاسراع في إرسال حاملة الطائرات «الأميرال كوزنيتسوف» المتطورة. فبدلاً من وصولها الى قبالة طرطوس في تشرين الاول المقبل، أصبح موعد إبحارها قريباً وهي التي تحمل طائرات متطورة من نوع «سوخوي 33» و»ميغ 29» اضافة الى مروحيات حديثة.
وتهديد تدمر فرض العودة عن قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سحب الأسلحة الاستراتيجية لتعود القاذفات الروسية الضخمة وتنفّذ غارات عنيفة ولو انطلاقاً من قواعدها في روسيا.
كذلك تبدو القيادة العسكرية الروسية وكأنها تضع خططاً جديدة للتقدم مجدداً في اتجاه مطار الطبقة العسكري في ريف الرقة، وهو هدف مهم جداً بعدما أوقع الهجوم الاخير إصابات كثيرة في صفوف الجيش السوري على رغم وصوله الى مسافة عشرة كلم من المطار، ما جعله ينسحب مجدداً الى بُعد تَجاوَز الستين كلم.
وفي حلب، تسعى القوات الايرانية، مدعومة من الجيش السوري و»حزب الله» ومن دون اي مشاركة روسية، إلى تثبيت سيطرتها على طريق الكاستيلو الاستراتيجي الذي يربط ريف حلب الشمالي بالجنوبي بالحدود مع تركيا. وستسعى هذه القوات للسيطرة على دوارَي الكاستيلو والجندول لتثبيت مواقعها والدخول الى حي بني زيتان حيث القوة المدفعية الكبرى. ويبقى السؤال حول موقف تركيا الفعلي كونها الخاسر الاكبر في حلب.
لكن ثمّة مؤشرات لا بد من ربطها وقراءتها بدقة: فروسيا تقترب من تركيا التي اقتربت بدورها من اسرائيل، فيما وزير الخارجية المصري يزور تل ابيب للمرة الأولى منذ زمن بعيد.
في هذا الوقت توافق أنقرة على تعاون أمني مع دمشق من خلال روسيا ولَو تحت عنوان محاربة الارهاب، فيما كان سبق ذلك تواصل تركي مع مسؤولين أمنيين سوريين بمسعى جزائري وعنوانه الواقع الكردي.
ولكنّ الحركة الأهمّ تمثّلت في اغتيال المسؤول العسكري للأكراد في شمال سوريا والذي يعتبر «مهندس حرب المدن» ضد تركيا. كل ذلك في موازاة الهجوم الايراني الناجح على طريق الكاستيلو او الشريان الذي يغذّي شرق مدينة حلب حيث يعيش زهاء 300 الف مدني تحت سلطة المعارضة.
ويقال إنّ الحصار لن يعني البدء بمعركة الدخول الى شرقي مدينة حلب، فالحصار شيء والاقتحام شيء آخر.
طبعاً سيبحث اليوم وزير الخارجية الاميركية جون كيري والرئيس الروسي في هذه الخيوط المتشابكة إضافة الى مسألة فصل «جبهة النصرة» عن بقية فصائل المعارضة تمهيداً لضربها كما وعدت واشنطن موسكو بذلك، وكما أبلغت القيادة العسكرية الروسية القيادة العسكرية المشتركة العاملة مع دمشق.
في اختصار، الحماوة ستبقى متصاعدة بهدف الترويض والإنهاك والفرز وتثبيت المحاور والحصص، في انتظار القادم الجديد الى البيت الابيض، ما يُحتّم على اللبنانيين الكثير من الواقعية والمسؤولية والقليل من الجنون.