ميشال أبو نجم
ليست المرة الأولى التي يزور فيها قائد للجيش اللبناني رسمياً العاصمة الفرنسية. فالعلاقات بين القوات المسلحة في البلدين وثيقة والمساعدات المختلفة التي تقدمها فرنسا للجيش اللبناني على صعيد العتاد أو السلاح أو التنشئة والتأهيل والدورات العسكرية المختلفة معروفة، لكن أن يستقبل رئيس الجمهورية رسمياً قائد الجيش اللبناني، فهذا أمر جديد ولا يمكن فهمه إلا على ضوء التطورات الكارثية التي يعيشها لبنان وإخفاق باريس في دفع الطبقة السياسية اللبنانية للسير بمبادرتها الإنقاذية، التي طرحها الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارتيه إلى لبنان، في الصيف الماضي.
ولم تشأ مصادر رسمية فرنسية الخوض في أبعاد اللفتة الرئاسية، بيد أن سفيراً بارزاً سابقاً اعتبر أنها حمالة أوجه وتستبطن عدة أبعاد. فالواضح منها، وهو الجزء البارز الذي جاء ذكره على لسان وزيرة الدفاع فلورانس بارلي، وما نقلته مصادر الإليزيه عن لسان ماكرون أن باريس تعتبر أن الجيش اللبناني هو «ركن الاستقرار الحقيقي في لبنان»، وسبق للرئيس الفرنسي أن أشار إلى ذلك في زيارته الأولى إلى بيروت في 6 أغسطس (آب) 2020.
والحال أن هذا الجيش يواجه جملة تحديات حياتية تم بحثها في الاجتماعات الرئيسية الثلاثة التي عقدها اللواء جوزف عون، في باريس مع نظيره رئيس الأركان الفرنسي، ومع وزيرة الدفاع ورئيس الجمهورية. وإذا كان الجيش هو عماد الاستقرار، فإن دعمه متعدد الأشكال هو مساهمة فرنسية في توفير واستدامة الاستقرار في لبنان. ولم يخفِ عون صعوبات الاستجابة لحاجات الجيش اللبناني، كما لم يتردد في التعبير عن «مخاوفه» في المقبل من الأيام، باعتبار أن تدهور الأوضاع الحياتية للجيش سينعكس ليس فقط على معنوياته وقدرته على القيام بمهماته بل على انسجامه الداخلي حيث يعاني أفراده ما تعاني منه الطبقات اللبنانية المختلفة. وسبق لعون أن نبه من انهيار الجيش اللبناني بسبب الأزمة المالية – الاقتصادية. من هنا الحاجة إلى دعم سريع وعدت فرنسا بتقديمه عينياً لاحتواء الاستياء الذي يتصاعد في صفوف القوات المسلحة، خصوصاً في المراتب الدنيا. يُضاف إلى ذلك أن باريس وعدت، وفق مصادر متطابقة، بالدعوة إلى مؤتمر لمساعدة الجيش اللبناني.
وتجدر الإشارة إلى أن روما استضافت مؤتمرين لدعم هذا الجيش، ولم تتوافر تفاصيل موثوقة حول «وضعية» المؤتمر المقبل، وكيفية حدوثه حضورياً أو عن بُعد.
بيد أن الجانب الأهم في لقاء ماكرون – عون أنه يمثل، وفق السفير السابق المشار إليه «امتداداً لنظرة فرنسا إلى الطبقة السياسية اللبنانية»، التي لم تعد تخفي باريس أنها «فقدت الأمل» منها. والتعبير الأبرز عن هذه الصدمة أن وزير الخارجية جان إيف لو دريان رفض لقاء المسؤولين السياسيين خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت مكتفياً بزيارات «بروتوكولية» إلى الرؤساء الثلاثة (بينهم الرئيس المكلف تشكيل الحكومة) ومفضلاً الاجتماع مطولاً بأحزاب وشخصيات من المعارضة وجمعيات المجتمع المدني في قصر الصنوبر.
من هنا، فإن هذا المصدر يرى، إضافة إلى ما سبق، أن الاجتماع بالجنرال عون هو من جانب ماكرون «رسالة إلى المسؤولين والطبقة السياسية» بأن العماد عون «يمكن أن يكون البديل» الذي قد تراهن عليه باريس.
وكان لافتاً أيضاً فيما صدر عن قصر الإليزيه أن ماكرون ميز بين المساعدات التي قد يأتي بها اجتماع خاص بالجيش اللبناني يُفترض أن يعقد سريعاً، الشهر المقبل، وبمؤتمر لدعم الاقتصاد. فمن جهة، لم يتحدث ماكرون عن أي شروط بالنسبة لمساعدة الجيش، في حين كرر شرطه المعروفة لمد يد المساعدة للاقتصاد، إذ اعتبر أن «تأليف حكومة قادرة على تنفيذ الإصلاحات في لبنان يبقى شرطاً لحصول البلاد على مساعدة دولية طويلة المدى».
ولا تريد باريس كما يؤكد مسؤولوها التدخل في المسائل الداخلية اللبنانية. لكن هذا التعبير يبقى إلى حد بعيد نظرياً، لأن فرنسا سعت لدفع الأمور في لبنان في اتجاهات محددة رأت فيها سبيل الخلاص؛ إن فيما خص شكل الحكومة والمحاور التي يتعين أن تعمل عليها. من هنا، فإن استقبال العماد عون في الإليزيه يمكن أن يفسر على أنه «تزكية» له للاستحقاق الرئاسي الذي سيحصل في العام المقبل، علماً بأن آخر ثلاثة رؤساء جمهورية وصلوا إلى قصر بعبدا عبر قيادة الجيش (أميل لحود وميشال سليمان وميشال عون) وقبلهم اللواء فؤاد شهاب. لكن الإشكالية أن بادرة باريس يرجح أن تدفع إلى فتح النار على العماد جوزف عون من مسترئسين، أبرزهم حالياً اثنان هما رئيس «التيار الوطني الحر» وصهر الرئيس ميشال عون النائب جبران باسيل وزعيم «المردة» النائب والوزير السابق سليمان فرنجية. وقد بدأت إرهاصات هذه الحملة بالظهور سريعاً لوأد سيناريو كهذا. من هنا، ليس من الواضح أن بادرة الإليزيه إذا كانت حقيقة تهدف إلى التهويل على الطبقة السياسية فقط أو من أجل تعبيد الطريق أمام احتمال ترشح قائد الجيش الحالي، يمكن أن تخدم مصالح الأخير، وأن تقربه من قصر بعبدا؛ فاللعبة الرئاسية في لبنان بالغة التعقيد وثمة أطراف فاعلة محلياً وإقليمياً ودولياً، وليست باريس، على ما يظن، الطرف الأكثر تأثيراً رغم أنها كانت الأكثر انخراطاً في الملف اللبناني منذ عشرة أشهر.