IMLebanon

العبادي ما بعد السلطة و«الدعوة»

 

بتأنٍ يقلب حيدر العبادي صفحات سنوات ولايته الأربع، يشدد أمام زواره على ضرورة استكمال ما تم إنجازه، باعتبار أن العراق دخل بعد الانتصار على «داعش»، وتجاوز أزمة انفصال كردستان، والانتخابات النيابية الأخيرة، مرحلة تأسيس جديدة تفرض على الطبقة السياسية القيام بتنازلات حقيقية، خدمة للمصلحة الوطنية، وتفرض أيضاً على الخارج الاعتراف بتحولات الداخل الذي باتت أولوياته إعادة صياغة الهوية الوطنية ضمن ثنائية الدولة والمجتمع.

فالدولة العراقية بمؤسساتها، حتى الضعيفة أو المخترقة أو المكبلة، بالنسبة للعراقيين في هذه المرحلة الانتقالية فوق كل اعتبار، أما المجتمع بجميع تلاوينه يمثل حالياً ومستقبلاً التهديد الفعلي للطبقة السياسية التي تعتقد أن باستطاعتها أن تدير ظهرها لاعتباراته الوطنية، فسقف الخطاب الذي رفعه المجتمع المدني والأهلي قد تجاوز حدود ما يمكن أن تقدمه بعض النخب السياسية المُصرة على التمسك بمسلك السنوات السابقة، ما يعزز الاعتقاد بأن إخفاق السلطة في تلبية الحد الأدنى من المطالب الحياتية والخدمية، سيرد عليه في الشارع الذي سيتحول إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين القوى التي تسيطر على عمل الحكومة، والمجتمع الذي يحشد من الآن لمعاقبة هذه القوى في الانتخابات النيابية المقبلة، فمتلازمة الشارع والانتخابات هي استكمال لقرار التغيير الأول الذي اتخذ في شهر سبتمبر (أيلول) 2014، في ذلك التاريخ تم تكليف العبادي رئاسة الحكومة العراقية، وكانت «داعش» تسيطر على نحو 35 في المائة من مساحة العراق، ومعنويات الجيش منهارة بعد هزيمة الموصل، والجماعات الإرهابية على بعد 70 كلم من العاصمة بغداد، ولم يكن في خزينة الدولة أكثر من 700 مليون دولار، فيما تحتاج إلى 3.5 مليار دولار للرواتب فقط، وكان سعر برميل النفط العراقي قد هوى إلى ما دون 30 دولاراً، والأزمة مع إقليم كردستان تتصاعد ووصلت إلى مرحلة الإصرار الكردي على إجراء الاستفتاء على الانفصال.

في تلك المرحلة كان العراق يعاني من قطيعة مع جواره جعلته معزولاً عربياً ومهملاً أميركياً، ولم يكن العبادي في موقف يحسد عليه، لكنه نجح رغم العقبات في عبور حقل ألغام محلي وخارجي، وساهم في إنقاذ العراق من السقوط، وسلم السلطة في 2 أكتوبر (تشرين الأول) 2018 والعراق يملك الإرادة والقدرة على إعادة بناء الدولة والمجتمع.

في حديثه مع عدد من أصدقائه القدامى الذين عرفوه عندما كان معارضاً ينتقل بين بيروت ولندن، لم يفرج العبادي بوضوح عن مشروعاته المستقبلة، لكنه شدد على التمسك بوسطيته، وقناعته بأن مصلحة العراق بتصفير مشكلاته مع جواره، وبرفضه أن يتحول إلى مكان لتصفية حسابات إقليمية أو دولية، وبأن قناعته راسخة بالإصلاح وبمواجهة دولة الفساد العميقة، وحذر من أن الشارع قد تجاوز الأحزاب والطائفية، وركز على أن إعادة الثقة بالدولة وسلطاتها القضائية والتنفيذية والتشريعية ضروري في طريق بناء عراق قوي تحميه المؤسسة العسكرية التي أصبحت في عهده رمزاً للوحدة الوطنية، ويُجمع الشعب العراقي أنها القوة الوحيدة القادرة على حمايته.

وفي أجوبته عن أسئلة ضيوفه المحرجة في بعض الأحيان، أصر العبادي على عدم توجيه اللوم لأحد، لا داخلياً ولا خارجياً، مع أنه دفع ثمن قرار جماعي بضرورة إنهاء حقبة حزب الدعوة بالسلطة، رغم تواطؤ بعض «الدّعويين» بهدف إبعاده، وهذا ما تلومه عليه بعض النخب التي تعترف بدوره، وتدعو لحماية منجزات عهده بوصفها ركيزة الإصلاحات الأولى، حيث كان من المجحف بحقه أن يتحمل أوزار حقبة سابقة، لكن بنظر الكثيرين لم يستثمر العبادي الفرص التي أتيحت له، وكان بإمكانه تحويلها إلى إنجاز يجعل من المستحيل تخطيه، لكن صاحب الانتصار على «داعش»، الذي أعاد بناء الجيش، وأخضع كركوك لسلطة الحكومة المركزية، لم يتخذ خطوات جريئة، كما فعل الصدر والحكيم واتخذا قرارات غيَّرت موازين القوة، وذلك عندما قرر الصدر التحالف مع اليساريين والشيوعيين والانفتاح على المدنيين، أما الحكيم فقام بعملية قيصرية وقرر الخروج من عباءة «المجلس الأعلى الإسلامي»، والانتقال إلى الفضاء الوطني، فيما وقف العبادي أسيراً لانتمائه العقائدي، فتردد في التمرد على حزبه، فأصيب بخسارتين؛ الأولى عندما أمعن خصومه في الحزب في تآمرهم عليه لإفشاله، والثانية عندما خاب أمل الشارع في الرهان على انتقاله من ضفة الحزب إلى المتسع الوطني.

ما بعد السلطة يمتلك العبادي حرية في اختيار تحالفاته، لكنه لم يزل متردداً في اختياراته ما بعد «الدعوة»، وهي إشكالية الفرد المُخلص لقناعاته، ولو على حساب مصالحه، كأنه المتمسك بماضيه الذي يرفض له أن يمضي