ليس ضرورياً أن يكون الرهائن بشراً فقط. الدول أيضاً يمكن أن تتحول إلى رهائن. قرارها ومصيرها يصبحان في يد الآخرين. والأخطر عندما يتحالف بعض أهل الداخل للمشاركة في المؤامرة، والمساهمة في عملية الخطف والاحتجاز.
ليس بعيداً عما نقول ما يحصل اليوم في بلدين عربيين، هما العراق ولبنان. بلدان يواجهان أزمة حكومية تتعلق باختيار رئيس جديد للوزراء، كما في حالة العراق، وبإتاحة الفرصة لرئيس مكلف تشكيل الحكومة لإنجاز مهمته، كما في لبنان.
لو كان هذان البلدان مطلقي الحرية، أي لو لم يكونا رهينتين، ولو كان تشكيل حكومتيهما فقط في يد أبناء بلديهما، لما كانت هذه العملية تواجه العقد التي تواجهها اليوم. غير أن هذا التشكيل لا يواجه فقط العقبات الداخلية المعروفة التي تحصل عند تشكيل الحكومات في أي بلد، عندما تسعى مختلف الكتل إلى الانضمام في تحالفات تسمح لها بتشكيل أكثرية. إنه يواجه أيضاً نفوذ الخارج و«الفيتوات» التي يضعها هذا الخارج على من لا يرضى بهم؛ لأنهم لا يخدمون مصالحه. والمقصود طبعاً في حالتي العراق ولبنان هو النظام الإيراني، الذي أصبح له الصوت الأقوى بسبب القوى العاملة تحت رايته والمتحالفة معه في البلدين.
في العراق، تسعى الكتل الشيعية التي يتم منها اختيار رئيس الحكومة بحسب الدستور، إلى التفاهم على إعادة اختيار حيدر العبادي، أو إلى اختيار شخص بديل. والعبادي الذي جاء إلى هذا المنصب نتيجة تسوية إيرانية – أميركية، خلال ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وهي التسوية التي أبعدت نوري المالكي آنذاك (عام 2014)، يجد نفسه الآن خارج تسوية من هذا النوع، في ظل احتدام المواجهة بين طهران وواشنطن، بعد قرار الرئيس الحالي دونالد ترمب عدم التزام واشنطن بالاتفاق النووي.
في مواجهة كهذه، ومع فرض العقوبات على إيران، لم يجد العبادي مفراً من إعلان التزام العراق بهذا القرار، من خلال عدم التعامل مع إيران بالدولار، ما أثار في وجهه عاصفة من الانتقادات، من جانب إيران ووسائل إعلامها، كما من القوى المؤيدة لها في بغداد. وفيما أراد العبادي من خلال قراره، إظهار استقلالية العراق عن النفوذ الإيراني، ارتفعت أصوات جمهور المؤيدين لطهران بين القوى الشيعية، ومن بينها حزب «الدعوة» الذي ينتمي العبادي إليه، تتهمه بخدمة المصالح الأميركية، وتذكره بأن هذه القوى لن تسمح إلا بأن يكون العراق مجرد كوكب في فلك طهران؛ لكن العبادي رد عليهم بالقول: «إن مصلحة الشعب العراقي أهم من مصالح عصابات… يريدون أن يضغطوا علينا حتى نقدم مصالح عصابات على مصالح الشعب العراقي. هذا لا يمكن».
نبرة استثنائية من التحدي، لم يسبق أن أقدم عليها رئيس حكومة عراقي، بوصف ميليشيات إيران بالعصابات. ولم يتأخر قادة طهران في الرد بإعلان رفضهم عودة العبادي إلى رئاسة الحكومة. كما طالب عدد من النواب، العراق بدفع مبلغ 1100 مليار دولار كغرامة بسبب الحرب العراقية – الإيرانية. ومن بين هؤلاء النائب محمود صادقي الذي كتب على موقعه على «تويتر»: «إيران لم تطلب تعويضات الحرب؛ لأنها أخذت في الاعتبار ظروف العراق الصعبة، أما الآن وبدلاً من التعويض يتماهى رئيس الحكومة العراقي مع العقوبات الظالمة ضدنا».
طبعاً، سبقت ذلك حملة على العبادي تمثلت في محاولة إثارة الغضب الشعبي ضده، بعد إقدام إيران في الشهر الماضي على قطع الكهرباء عن مناطق الجنوب العراقي، وبالأخص عن مدينة البصرة، بحجة أن العراق لم يدفع ما يتوجب عليه من مستحقات لتوفير الكهرباء. غير أن الإيرانيين وحلفاءهم فوجئوا بأن معظم المظاهرات التي خرجت في تلك المنطقة لم تكن ضد العبادي؛ بل ارتفعت الهتافات ضد الميليشيات الإيرانية، وأحرقت مقرات ومكاتب لـ«الحشد الشعبي»، حتى أن الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق» قيس الخزعلي، هدد بقطع يد المتورطين في الهجمات على مقرات «الحشد».
هذا في العراق. أما في لبنان، فيواجه سعد الحريري ضغوطاً وعقداً في عملية تشكيل الحكومة، ظل الرجل يصفها بالعقد الداخلية، إلى أن اضطر أخيراً إلى كشف الهدف وراء تلك العقد، وهو سعي حلفاء إيران، الموزعين في لبنان بين فريق واسع من الشيعة وبعض القيادات السنية، إضافة إلى «التيار الوطني الحر» الذي يرأسه وزير الخارجية جبران باسيل، إلى الحصول على الأكثرية داخل الحكومة، ليتمكنوا من فرض قراراتهم، ومن بينها إعادة العلاقات الطبيعية مع نظام دمشق كسياسة تعتمدها الحكومة الجديدة التي يسعى الحريري لتشكيلها. ورد الحريري على ذلك بالتأكيد على أنه إذا كانت هذه هي رغبة حلفاء طهران من وراء التعقيدات المفتعلة، فلن تكون هناك حكومة.
طبعاً، يستطيع الحريري أن يبقي تشكيل الحكومة معلقاً إلى أن يستطيع إعلان التركيبة التي يرضى عنها، والتي يصفها بحكومة وفاق وطني، لا تحصل فيها أي جهة على الأكثرية. فهو دستورياً يملك صلاحية التشكيل، كما أنه حصل على أصوات 111 نائباً من أصل 128 في المشاورات التي أفضت إلى تكليفه؛ لكن ذلك يعني دخول لبنان في أزمة حكومية طويلة، وفي عملية عض أصابع، يعرف «حزب الله» وحلفاؤه كيف يستفيدون منها ويوظفونها لمصلحتهم. فهم يلعبون لعبة النَفَس الطويل، كما فعلوا مع انتخاب الرئيس ميشال عون، عندما عطلوا تلك العملية وقاطعوا جلسات الانتخابات لمدة سنتين ونصف، رغم أن الدستور يلزم النواب بحضورها، إلى أن حصلوا على ما كانوا يريدون، وها هو لبنان يحصد اليوم ذيول ذلك الانتخاب.
بصرف النظر عن الأحجام الداخلية للقوى السياسية، أثبتت المفاوضات الجارية في كل من العراق ولبنان، أن العقبات التي تقف في طريق تشكيل حكومتي البلدين تأتي من مكان آخر، لا يعكس هذه الأحجام. فالهيمنة الإيرانية من خلال الميليشيات المسلحة ترافقها كذلك هيمنة على القرار السياسي وقدرة على تسيير هذا القرار بالاتجاه الذي يريدون. فالجماعة يشعرون اليوم بأنهم «منتصرون» في معارك الإقليم، رغم الحصار المفروض على إيران، ورغم الضغوط الدولية التي تتعرض لها. وهم يريدون توظيف هذا «الانتصار» حيث يستطيعون، بالسياسة إذا استطاعوا، وبالقوة إن عجزت السياسة.