منذ مدة، والعلاقات السعودية – العراقية تشهد تحركات معبّرة، تدل على أن هناك حركة ما تستجد في الاتجاه التقاربي الصحيح، وفي الحركة بركة. هذا ما تجلّى في نهايات الأسبوع الماضي من خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى المملكة، وتُوِّجت بذلك اللقاء الهامّ واللافت مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وتفرّعت إلى لقاءات مع كبار المسؤولين السعوديين وفي طليعتهم ولي العهد محمد بن سلمان صاحب اليد الطولى في سياسات بلاده. ولم يكن وجود وزير الخارجية الأميركي تيلرسون في المملكة خلال تلك الزيارة مجرّد صدفة، فهي تشكّل تطويرا هاما متعدّد الإشارات والاستنتاجات، وقد أسهمت زيارة العبادي في توقيع جملة من الإتفاقات السعودية – العراقية، عميقة المدى والأثر، ركزت على التنويه بالنجاحات التي حققها العراق في محاربة الإرهاب، وأكدت على الموقف الأميركي الذي ما زال يحوم حول انسحاب الولايات المتحدة من الإتفاق النووي ومواجهة إيران في سياساتها التوسعية في المنطقة وفرض عقوبات قاسية جديدة على العماد الأساسي والأهم في السلطة الإيرانية التوسعية المتمثل بالحرس الثوري، وانشاء مجلس تنسيق ما بين البلدين يهتم خاصة بإعادة إعمار المناطق العراقية التي طاولها الدمار. وبرز في الزيارة اللافتة تصريحٌ للرئيس العبادي بأن الاجتماعات ما بين قمتي البلدين أسفرت عن إطلاق برنامج يتناول مستقبل المنطقة، يقوم على التنمية وبسط الأمن بدل الخلافات والحروب التي عانيناها.
هذه التطورات المتسارعة في العلاقات السعودية – العراقية، تدل على أهمية المستجدات الداخلية التي طرأت مؤخرا في العراق والتي بدأت بتململ شعبي عموما وشيعي خصوصا من خلال مواقف المرجع العراقي الإمام السيستاني والزعيم المعمّم، مقتدى الصدر، تشكل منها وعي عراقي متجدّد، أعاد إلى العراقيين الشيعة الكثير من معالم عروبتهم وأساسيات مذهبهم البعيد عن معالم المذهب الشيعي المعتمد في إيران، وقد عمّق لديهم هذا الوعي، التصرفات الإيرانية في مجمل الداخل العراقي وعلى حدوده مع سوريا والتي أسندت مهامها إلى أرتال مسلحة متمثلة بالحشد الشعبي يقودها قاسم سليماني ويتبناها ويوجهها ويمولها الحرس الثوري، وإذا بالعراق من خلالهم يطمح إلى أن يكون نسخة أخرى تشابه الوضع اللبناني بما له من سماتِ الدولة والدويلة، والسلاح الحاكم والمتحكم، والسياسات المخالفة لقناعات وتوجهات معظم اللبنانيين. صحيح أن الرئيس العبادي قد دافع عن الحشد الشعبي معتبرا أنه يشكّل جزءا من القوى الرسمية التي قاومت داعش، وصحيح أن ذلك يتناقض مع تصريحات الوزير الأميركي بهذا الشأن، إلاّ أن ذلك يبقى متصلا ببقايا الجهود المبذولة لإنهاء مجمل الوضع الداعشي، واقتلاعه جذريا من العراق، بل ومن المنطقة بأسرها.
ماذا تعني إذن هذه التحولات الملموسة في أوضاع العراق، متمثلة بزيارة الرئيس عبادي ولقاءاته مع المسؤولين السعوديين؟ وماذا تعني كل هذه الأجواء المواجهة للهجمة الإيرانية على المنطقة والعداوات الشرسة وعمليات التسليح والتخريب ونبش الأحقاد الطائفية والعنعنات المذهبية التي تمارسها إيران مع دول الخليج وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية، دون أن ننسى ما هو حاصل فعلا في كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان؟ ماذا يعني أن يكون الرئيس العبادي حيث هو وحيث مفاوضاته واتفاقاته وتصريحاته التي نلمس من خلالها تلك التحولات التي يمكن أن نصفها بعد الآن، بأنها تقترب من أن تكون جذرية الواقع والأثر؟ ماذا يعني أن يكون وزير الخارجية الأميركية متلاحما مع هذه الزيارة، خاصة إذا ما دمجناها بلقاءاته المعبّرة وتصريحاته النارية ضد إيران والحرس الثوري، والإشارة إلى مخططات الرئيس ترامب المنتظرة بشأن الإطباق عليهما أقله على الصعيد الاقتصادي والمالي.
ونتجاوز الحدث السعودي لنصل إلى أوضاعنا المحلّية والقرارات المالية والمصرفية والإقتصادية المنتظر اتخاذها تجاه حزب الله، والرامية إلى تضييق الطوق من حوله وعلى مصادر تمويله، ماذا يعني دمجها بالتطورات المستجدة في المنطقة، انطلاقا من العراق وصولا إلى سوريا، وتوافقات القوى الدولية بشأنها، فوق الطاولات وتحتها؟ وماذا يعني الطلب الأميركي الموجه إلى الحرس الثوري وأتباعه في العراق بالمبادرة الفورية إلى ترك العراق لأبنائه يعيدون تصويب أوضاعه كما يشاؤون؟ هل يصل الدور في إطار هذا التوجه، فيتم الطلب من حزب الله، سحب مقاتليه من سوريا، وسحب طموحاته متعددة الأشكال والالوان والمتواطئة مع النظام السوري والحرس الثوري لتشكيل وضعية مستجدة على سوريا، تقلبها رأسا على عقب، وتقسّم أرضها وشعبها إلى جملة من الدول والفئات، وتحوّل أكثريتها السكانية الكاسحة إلى نُتَفٍ من المكونات الأقلّوية، وتغيّر معالمها السكانية على نحو ما هو حاصل في هذه الأيام اللاهبة في أكثر من منطقة وأكثر من مدينة تم تدميرها عن بكرة أبيها، توطئة للمخططات الجاري تنفيذها، بنكهة إيرانية تارة، وروسية متنافسة مع التوجهات الأميركية تارة أخرى، دون أن ننسى على الإطلاق، ذلك العدو الإسرائيلي القابع في محيطنا جميعا، ينظر إلينا بكل زهوّ ونشوة، ويحقق علينا انتصارات مجانية نقدمها له على صحن ممتلئ بدماء أبنائنا.
وإذا تحقق ما باتت بوادره تحصل في العراق على ما نسمع ونقرأ ونرى بأم العين، من سيكون مبادرا بالسياسة أم بالضغط الاقتصادي أم بالتصرف الأمني؟ في الطلب إلى الحزب بأن يسحب مقاتليه من الأرض السورية المنكوبة، والتي كانت له يد طولى في إيصالها إلى هذه الحدود المأسوية، ويد أطول في إيصال وضعية النزوح السوري إلى هذا القدر من الاندفاع والغزارة والإطباق على سلامة الوضع اللبناني بشتى أنواع التحديات والمخاطر.
من مجمل ما ذُكر، ندعو إلى مزيد من التنبه واستقراء الحاضر واستنتاج ما هو مقبل على المنطقة عموما والعراق وسوريا ولبنان خصوصا. إن أكثر ما يدعونا إلى هذا القول، أن تتطور الأحداث بما يخدم وضعية الأمن والاستقرار وتطور أوضاع دولتنا ومؤسساتها إلى الأفضل. إننا بالكاد نُطلَّ برؤوسنا حتى الآن مع جرعات إصطناعية من الأمل والرجاء بأن نعود إلى ذلك الوطن الذي لطالما تغنينا بمحاسنه وديمقراطيته ومدى الحرية التي ينعم بها أبناؤه، ولشدّ ما نطمح إلى أن تتعالى رؤوسنا وتشمخ لبلوغ مواقع الإنقاذ والخلاص الحقيقّيين.