“طبّقنا الفدرالية في الجبل من خلال الإدارة المدنية”
وكأن كمال بك جنبلاط كان بيننا، وكأنه حلّ ثالثنا منذ وصلنا إلى منزل ضيف الذاكرة الجديد هذا الأسبوع في شملان وألقينا عليه التحيّة: من الـ»مرحبا» وصولاً إلى… إلى اللقاء. إنه الأمين الوفي على فكر «المعلم كمال بك». إنه أحد الوزراء الثلاثة المحسوبين من حصة الحزب الإشتراكي في حكومة رشيد الصلح الشاهدة على بداية الحرب. وهو من قال لوليد جنبلاط في أربعين والده: عليك أن تذهب إلى دمشق وترافقا. عباس خلف أتتذكرونه؟ قليلون يعرفون هذا الرجل ومن عرفوه إكتشفوا فيه ولاءً ووفاءً وهو الذي أسّس «رابطة أصدقاء المعلم الشهيد كمال جنبلاط». إنه الأرثوذكسي الوزير السابق، وزير الإقتصاد والتجارة السابق، في حكومة نالت الثقة في 31 تشرين الأول 1974 واستقالت في 23 أيار 1975. حوارٌ فيه وفاء ومحاور وذكريات ومعلومات ونوستالجيا وفلسطين وعروبة…
تبعد شملان عن بيروت مسافة 25 كيلومتراً، ومنزله الجميل، الغارق بين أشجار الصنوبر والشربين، يعلو عن سطح البحر 850 متراً. وفي التفاصيل كثير من الصور والكتب والأقاويل والسرديات التي تجعل كمال جنبلاط حاضراً على الدوام. أصله من سوق الغرب التي تهجر منها في الحرب اللبنانية الى شملان يوم تهجر كثير كثير من المسيحيين بشكلٍ معاكس. ولد العام 1934 وكان يكبره «معلمه» (كمال جنبلاط) بسبعة عشر عاماً. والده ميشال ووالدته روز وشقيقته ليلى، التي توفيت العام 2000، كانت على ما قال «عزيزة جداً حداً عليّ». صورتها حاضرة، بارزة، هي أيضا بين الصور. وفيٌّ هذا الرجل.
بداية، تعلّم في مدرسة القلب الأقدس ويتذكر «كانت لغتي العربيّة جيدة وكنت أقرأ الرسالة في الكنيسة. وكان والدي ميشال يقول لي: إذا طلبوا منك أن تتناول لا تفعل لأننا أرثوذكس (يضحك لذلك). عدت وتابعت دروسي في الكلية اللبنانية في سوق الغرب ودرست في الجامعة الأميركية في اختصاص الإدارة العامة».
الحماسة للعروبة والقرب من جنبلاط
هذه كانت البدايات دراسياً. لكن، كيف كانت البدايات السياسية والحزبية يجيب: «كانت الجامعة تضم كل الإتجاهات السياسية، من قومية عربية الى قومية سورية وقليل من الإشتراكية، وتعرفت هناك على صديقي عصام نعمان وتابعنا سوياً في الإتجاه العروبي. وأتذكر أن كمال جنبلاط كان يقول عني: وحده الرفيق عباس يقول الوطن العربي لا الأمة العربية. وأنا من أصريت على إضافة كلمة العروبة الى شعار الحزب الإشتراكي فأصبح: حرّية، إشتراكيّة، عروبة. كنت متحمساً كثيرا للعروبة».
هل ورثت هذا الشغف بالعروبة عن أهلك؟ يجيب: «كان والدي مساعداً في ذلك. ويوم تعرفت الى كمال جنبلاط لم أكن قد تخرجت بعد. كانت المنطقة مقسومة بين يزبكية وجنبلاطية وكان جدي واسمه عباس زعيم اليزبكية في منطقتنا ولم يكن لدينا تمييز طائفي. أخذني والدي معه الى دير القمر للمشاركة في مؤتمر ضمّ كمال جنبلاط. هناك رأيته أول مرة ودعاني لأجلس الى جانبه. كان يحبّ الفئة الشابة. سألني أسئلة كثيرة وقبل أن نغادر قال لي: أتمنى أن نراك مجدداً. حصل ذاك اللقاء العام 1952. بعد فترة قصيرة إنتسبت الى الحزب التقدمي الإشتراكي عام 1953. وكان صديقي ميشال معلولي (النائب السابق) قومياً سورياً متحمساً ودعاني الى لقاءات الحزب لكنني كنت اجيبه دوماً أنا قومي عربي لا قومي سوري. تقدمت بسرعة في الحزب الإشتراكي وأصبحت مفوض الشؤون الخارجية. وانتخبوني لاحقاً أمين سرّ ثم نائب رئيس للشؤون الخارجية.
إشتدّت علاقتي مع كمال جنبلاط وكانت علاقة فكر وثقافة ومبادئ وقيّم ومودة. رافقته في أكثر رحلاته الخارجية وكان بيتنا في سوق الغرب محطة يومية له وهو طالع وهو نازل. إلتقى بشخصيات كثيرة في منزلنا بينهم السيد موسى الصدر». ينظر الى صورة تجمع ثلاثتهم ويقول «ربطتنا بالسيد موسى الصدر علاقة جد وثيقة. وكان كمال بك يرتاح في بيتنا وأصبحت أنا صلة وصل (in between) بينه وبين كثير من الأشخاص» ويستطرد هنا بالقول «في أيام الحرب أنشأنا الإدارة المدنية في المنطقة. كانت فيدرالية بمفهوم هذا الزمان كما يتكلمون عنها (يضحك لذلك مجدداً). كان لا بد من اللامركزية الإدارية بعدما فلتت الأمور. أنشأنا الإدارة المدنية في عالية، وترأستها بالنيابة عن كمال جنبلاط. ووقتها طلبت من الأب غريغوار حداد، الذي هو ايضاً من المنطقة وهناك قرابة بيننا، الإنضمام إلينا، كي نتمكن من «المونة» على مختلف الطوائف. ونجحنا في منع الرذالات والسرقات».
هل نفهم من ذلك أن فدرالية المنطقة نجحت؟ «ما يمكنني قوله أننا «ظبطنا» الأمور وهذه كلفتني التعرض الى محاولة إغتيال على مفرق عين عنوب – بشامون. أصيب مرافقي ونجوت بأعجوبة. أرادوا إغتيالي لأنني منعت الرذالات. فطلب مني كمال جنبلاط بعد ذلك أن أذهب الى القاهرة لأهتم بالعلاقات الخارجية بعدما إحمرّت العين مني في البلد وقيامي بسجن كثير من الأشخاص لارتكابات إقترفوها».
ماذا عن ما لا نعرفه عن كمال جنبلاط؟ ينظر الى صور المعلّم المتناثرة في كل مكان ويقول: «هو، بطبيعته، متواضع. نشأ في عائلة إقطاعية. قتلوا والده. واستلمت والدته الست نظيرة القرار. كانت إمرأة قوية. هو كان بعيداً عن تلك الأجواء فتوجه الى مساعدة الناس. صار يشتري الطحين ويوزعه على المحتاجين ويوزع أراضي باسمه مجاناً على الناس. كان زاهداً بالحياة العادية». يلتفت في أرجاء مكتبه ويقول مشيراً الى صورة في الصدارة: «هذه صورتي مع كمال جنبلاط وجمال عبد الناصر في قصر الضيافة في الشام يوم إعلان الوحدة. كان عمري 24 سنة وعمر المعلم 41 عاماً. كان كمال جنبلاط يشعر بالناس ومع الناس كثيراً».
يعيش الرجل مع الذاكرة والصور تحييها بدقائقها. أليست الصور مثل الموسيقى لا تموت؟ نتابع الإصغاء إليه وهو يسرد العلاقة الوطيدة التي ربطت زعيم الحزب التقدمي الإشتراكي بزعيم العروبة آنذاك جمال عبد الناصر: «كانت جريدة الأنباء تصدر أسبوعياً عن الحزب الإشتراكي. وبدأت أكتب فيها منذ العام 1959 تحت عنوان ملح الارض. كانت العلاقات الخارجية وثيقة مع الدول التي تتعاطف مع القضية العربية والقضية الفلسطينية. كنا متحمسين جداً لها. وعبد الناصر كان من أوائل الناس الذين أدركوا أن كمال جنبلاط قادر ان يحدث تطوراً. قويت العلاقة بين الرجلين. أحبّ عبد الناصر كمال جنبلاط كثيراً. كنا نذهب كثيراً الى القاهرة. وكان عبد الناصر يقرأ يومياً الصحف اللبنانية وانتبه الى أن الحزب الإشتراكي يصدر صحيفته أسبوعياً فقال لكمال جنبلاط: أنت قائد لحركة تقدمية إشتراكية عروبية لا جريدة يومية لديك. فكيف ذلك؟ أجابه: لا نملك إمكانات مادية لإصدار صحيفة يومية. مرّت ثلاثة أو أربعة أيام. عدنا خلالها الى لبنان، إتصل بعدها السفير المصري في لبنان عبد الحميد غالب بي قائلاً: سيادة الرئيس أمر بتحويل مبلغ الى بنك مصر ولبنان من أجل إنشاء جريدة يومية للحزب. بلغت كمال جنبلاط بذلك فأجابني: دعني أفكر. تحمسنا نحن لذلك وبدأنا في البحث عن مقر ومطبعة. وحين راجعت كمال جنبلاط بذلك قال لي: صحيح أننا على علاقة طيبة ممتازة مع عبد الناصر واتجاهنا واحد لكنني ضدّ تقييد أنفسنا. أفضل أن نبقى أحراراً. رفض المبلغ. فاتصلت بالسفير وأبلغته فسحبوا المبلغ وبقيت الأنباء أسبوعية».
نسأل عباس خلف: ما مدى الشبه بين كمال ووليد جنبلاط؟ أجاب وكأنه يرغب في عدم الغوص في الموضوع: «من حيث الشكل يعني؟» نصوّب السؤال: من حيث الأسلوب والمضمون؟ أجاب: «حين إغتالوا كمال تأثرت كثيراً مع علمي أنه كان يعرف متى يموت. قررت حينها ألا أتابع مسيرتي في جوار أحد غير كمال جنبلاط. لا يوجد أحد أبداً أبداً مثل كمال جنبلاط. ومن يعمل مع كمال لن يكون بمقدوره أن يعمل مع سواه. وكان وليد «إجر لقدام وإجر لورا» في السياسة. لم يكن متحمساً بل متردداً. هناك أمر آخر، كنت قد عينت قبل اغتيال كمال جنبلاط رئيسا في شركة «أميركان لايف إنشورنس». أتذكر أنني أخبرت كمال بذلك ففرح كثيراً وكان يخطئ أحياناً ويقول لي ستعمل في أميركان إكسبرس فأصحح له التسمية (يضحك خلف لذلك). هذا السبب جعلني اترك لبنان وأغادر للعمل».
قد يكون هذا هو السبب وقد يكون هناك سبب آخر شاء الرجل الوفي كتمانه. من يدري. نتابع الإصغاء لما مرّ به من محطات يفيد ان نعرف عنها أو نتذكرها. يقول: «أنا من أقنع وليد (جنبلاط) أن يتابع، أنا ومحسن دلول أيضاً. قلنا له في اربعين والده وهو الذي ردد أمامنا: أريد أن اغادر وأعيش في النورماندي: هل تريد فعلاً المغادرة أم البقاء؟ في النهاية قال: لا أعرف. قلنا له: إذا قررت البقاء هنا لا يمكنك الإستمرار على خصام مع النظام السوري بيروحوك».
نتوقف عند الكلمة «بيروحوه». لكن، كيف يطلبان منه الصفح عن نظام قتل والده؟ يقول «أخذناه أنا ومحسن (دلول) وذهبنا الى الشام. وحين وصلنا قال له حافظ الأسد: يا لطيف قدي بتشبه بيّك. ثم نظر إليّ وقال: أخ عباس إنشاالله ان لا تكون تضايقت في مصر (حيث عاش فترة). وقال لمحسن: ذهبت بحثاً عن عمل في الخليج فهل وجدت ما تنشد؟ كان حافظ الأسد قبل أن يلتقي ضيوفه يحضر جيداً الـ Home work عنهم».
نعود لنسأل عباس خلف: لكن وليد جنبلاط كان يعرف، او لنقل يشك بنسبة 99 في المئة، أن النظام السوري قتل والده، فكيف تطلب أنت منه، وأنت الوفي للمعلم، الذهاب الى سوريا؟ يجيب: «بعد أربعين كمال جنبلاط أتى من سوريا عبدالله الأحمد، وكان عضو قيادة قطرية، فقلت لمحسن دلول فلنذهب ونتكلم معه. ذهبنا. وقلنا له: من مصلحتكم مساعدتنا على كشف قتلة كمال جنبلاط وإلا ستلصق التهمة بكم. أجابنا: سأتكلم مع سيادة الرئيس. ذهب ولم يجب. وكان وقتها إبراهيم الحويجي الضابط السوري الذي اتهم في الإغتيال (كان الحويجي يومها برتبة نقيب ورقي ووصل الى رتبة لواء وأصبح قائد جهاز المخابرات الجوية الذي يتبع مباشرة لحافظ الاسد). يضيف: قال لي القاضي الذي كان يقوم بالتحقيق (رفض خلف ذكر إسمه لكن كثيرين يعرفون انه حسن قواص) أن المسؤول عن الإغتيال هو الضابط الحويجي».
توقف التحقيق في اغتيال كمال جنبلاط كما توقف التحقيق في اغتيالات وجرائم أخرى كثيرة لاحقة وآخرها انفجار المرفأ.
نكرر سؤال طرحناه مرتين على عباس خلف: أنتم كنتم تشكون، كي لا نقول كنتم على يقين، أن النظام السوري فعلها لكنكم ذهبتم إليه. أليس هذا غريباً؟ يجيب: «قمنا بذلك لمصلحة البلد والناس ولأن الخلاف مع سوريا كارثة بدليل ما حصل وما زال يحصل».
وليد جنبلاط لم ينس ما حصل. هو اتبع التسويات لكنه لم ينس «قد يستطيع الإنسان ألا يحقد لكنه لا يستطيع أن ينسى».
ننظر الى الجدار المواجه للكرسي التي يجلس عليه عباس خلف ونقرأ في صورة معلقة على الجدار قدمت له هدية وتضم أقوالاً للفيلسوف طاغور: «ساعدني على ان أقول كلمة الحقّ في وجه الأقوياء، وساعدني على ألا أقول الباطل لأكسب تصفيق الضعفاء».
سبعينات الوزارة …والحرب
غادر عباس خلف بعد اغتيال كمال جنبلاط، وبعدما استلم دفة الحزب بالوكالة طوال سنة بين الإغتيال وتولي وليد جنبلاط الدفة. خرج عباس من الحزب إلا أن «معلمه» بقي في قلبه وعقله وضميره.
لكن، قبل ذلك، دخل السياسة اللبنانية وزيراً في حكومة رشيد الصلح التي نالت الثقة في 31 تشرين الأول 1974 واستقالت في 23 أيار 1975. إنها الحكومة الشاهدة على بداية الحرب في لبنان. فماذا يتذكر من تلك الأيام السوداء؟ يجيب: «مسألة الخدمة العامة طالما استهوتني، واي شيء يمكنني من خلاله مساعدة الناس لا أتأخر عنه. وأتذكر أن كمال جنبلاط إتصل بي ذات يوم من العام 1974 ودعاني الى الذهاب معه حيث الإستشارات لتشكيل الحكومة مع رشيد الصلح. أخذني أنا وأمين السر في الحزب معه. وفي اليوم التالي صدرت الصحف بخبر وصورة: خلف مرشح الحزب التقدمي الإشتراكي الى الوزارة. كثيرون كانوا قد مشطوا ذقونهم للمنصب لكن كمال إختارني أنا بعدما كان طلب مني قبلها أن اترشح للنيابة فقلت له: أرفض أن اعمل معقب معاملات. لذلك، إختارني الى الوزارة مع خالد جنبلاط. وكان ماجد صبري حمادة (زوج ليلى الصلح» وزيراً معنا. وكنت صديقاً لرشيد الصلح. واستلمت وزارة الإقتصاد والتجارة من نزيه البزري» (والد النائب عبد الرحمن البزري).
حصلت احداث بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان، فهل يتذكر ماذا حصل في أول إجتماع تلا الحادثة التي أدخلت لبنان في أتون الحرب؟ يجيب: «كانت حكومتنا من تشكيلة واسعة، ضمّت لويس أبو شرف وجورج سعادة. كنت صديقاً لهما حتى أن إبن لويس هو اليوم معنا في رابطة كمال جنبلاط. وأتذكر أننا كنا مدعوين يوم الحادثة الى غداء في بيت جان عبيد في بلونة (إبن خلف سامر متزوّج من إبنة عبيد). أتاني يومها إتصال من أبو عمار يخبرني فيه ان الكتائب هم من قوصوا على البوسطة وعليهم وأنهم لن يسكتوا عن الموضوع. وفي أول جلسة حكومية طلبنا الإجتماع مع مدير عام قوى الأمن الداخلي هشام الشعار وطالبت باستدعاء الضابط اللبناني الذي حضر في الموقف لنسمعه. أتوا به ومما قال استنتجنا أن الكتائب أطلقوا هم أيضا الرصاص».
هل نفهم من ذلك ان الكتائب «قوصوا» على انفسهم؟ هل نفهم أن الفلسطينيين براء منذ بداية الحرب اللبنانية؟ وهل هي صدفة أن نسمع هذا الكلام في وقتٍ يحصل ما يحصل في مخيم عين الحلوة منذراً بحربٍ قد تمتد الى ما هو اوسع من المخيمات؟
أسئلة كثيرة تلحّ في البال. لكننا نتابع الإصغاء الى سيل الذكريات: «أخذ يومها بيار الجميل موقفاً متشنجاً، في حين كان كل همي «ضبضبة» التطورات بالتي هي أحسن. عرضت على مجلس الوزراء إستعدادي لرؤية أبو عمار شرط أن يتم توقيف أحد المشاركين في الحادثة. وافق الجميع مبدئياً. إتصلت بأبو عمار وطلبت منه إرسال مسؤولين أمنيين حتى نتفاهم معهم. أتوا. تكلمنا. لكن تطورات حدثت. كانت الكتائب متشبثة برأيها وبأن الفلسطينيين هم من بدأوا…
إندلعت الحرب الأهلية في لبنان. ترى هل التاريخ يعيد نفسه؟
نعود للإصغاء الى فترة تولي عباس خلف وزارة الإقتصاد والتجارة التي يتحدث عنها بفخر ويقول: «قمت بحملة ضد محتكري المواد الغذائية، من سكر وقمح ورز. نزلت شخصياً الى طرابلس حيث كان هناك تجار من آل غندور يجمعون كميات هائلة من السكر. تحققت من ذلك وطلبت تسليم الكميات فلم يفعلوا، بمعنى أنهم ردوا «روح بلط البحر». إتصلت بمدعي عام التمييز وقتها وكان كميل جعجع فقال: أحتاج الى حماية قانونية. إتصلت برئيس الحكومة رشيد الصلح وأخبرته فأجابني: مين بدك تداهم؟ بيت الغندور؟ إنه يأتي يومياً، عند الساعة السادسة صباحاً، ويلعب طاولة زهر مع الرئيس سليمان فرنجية. لا أقدر أن أغطي تحركك. أجبته: سأقدم إستقالتي وأتحدث عن الأسباب. خاف واتصل بالمدعي العام الذي على ما أتذكره قال لي: أنت تعمل ما يفترض القيام به لكن حين ستغادر ستعود المياه الى مجاريها».
أحداث كثيرة حصلت. نصغي إليها من الوزير الوفي. لكن، مع رغبتنا، لو سمعنا منه ما يشجب ما فعله الفلسطينيون أمس ويفعلونه اليوم.
اليوميات
أصدقاء عباس خلف كثر. زوجته تريز توفيت قبل سنوات. أولاده الثلاثة ترفع لهم القبعة: رولا خلف رئيسة تحرير فاينانشال تايمز وهي تعيش في لندن (والآن هي في طوكيو)، وميشال يعيش في نيويورك وهو مدير عام شركة MetLife العالمية، وسامر الذي يعيش في أبو ظبي ويشغل رئاسة مجلس إدارة شركة إستثمارات. ثلاثتهم اليوم في الخارج. فكيف يمضي وقته؟ يجيب: «أمشي يومياً ساعة، أقرأ، أكتب، وأنام وأنا أسمع الموسيقى الكلاسيكية وأستيقظ على مقطوعات موسيقية كلاسيكية. وفي هاتفي 1200 مقطوعة أستمع إليها وانا امشي. وأسمع أيضا أم كلثوم ونجاة الصغيرة وماجدة الرومي التي لم تأخذ حقها. كلهم يتحدثون عن فيروز فيروز فيروز. أحب فيروز كثيراً وأعرفها شخصياً وأعرف شقيقها جوزف حداد وأول حفلة غنائية لها كنت حاضراً فيها لكنني ارى أن ماجدة الرومي لم تأخذ حقها».
يهتم الرجل اليوم برابطة صديق عمره ومعلمه كمال جنبلاط التي أنشأها في 22 آذار 2010 بهدف تخليد فكر «المعلم» ونشره وتعميمه بين الشباب الذي كان يقول عنهم كمال جنبلاط «صيادو الحقيقة». تضم الرابطة أشخاصاً عايشوا كمال جنبلاط وشاركوه في نشاطاته وأشخاصاً لم يعايشوه لكنهم تأثروا بتراثه الفكري والثقافي والعقائدي. والسؤال الأخير، هل الرابطة مدعومة من وليد جنبلاط؟ يجيب: «حين أسستها تعاون معي وقدّم لنا المقرّ في كليمنصو».
وماذا بعد؟ نسأله ان يختم ينبوع الذكريات بما يستحق ان يُشكّل أمثولة؟ يُمسك ورقة وقلماً ويبدأ بكتابة ألف شكر وشكر الى كمال جنبلاط بعبارات لم تسعها الصفحات البيضاء التي بين يديه ومما كتب في السجل الذهبي: شكراً لأنك بعثت فينا روح التحدي البطولي لنناضل الى جانب الحقّ لأنّ الحقّ يحررنا… شكراً لأنك علّمت الأجيال أن الثبات في المبدأ والدفاع عن الحقّ والحريّة ومستقبل الشعب يستحقّ الإستشهاد…
إنتهى اللقاء. إستشهد كمال جنبلاط. إستشهد بشير الجميل. إستشهد رفيق الحريري. إستشهد بيار الجميل وجبران تويني وأنطوان غانم ووليد عيدو… وتفجّرت بيروت… ووحدها دروس التاريخ يجب أن تجعلنا نفهم، نصحّح، نواجه، ولا ننسى.