تدخل الرهبنة المارونية المريمية مرحلة جديدة بعد الإنتخابات التي أسفرت عن انتخاب النائب العام السابق إدمون رزق رئيساً عاماً لها. ويعوّل كثُر على هذا الإنتخاب من أجل بثّ روح جديدة في شرايين الرهبنة ومواجهة التحدّيات التي تعصف بمؤسساتها، كما بالكيان اللبناني.
لن تكون مسيرة الأباتي رزق مفروشة بالورود، فلبنان يعيش انهياراً متمادياً، في حين يتمنّى البعض إنتقال تجربة الرهبانيات إلى الدولة فتسير مؤسساتها بشكل صحيح وتحترم الاستحقاقات الدستورية، وعلى رأسها انتخاب رئيس للجمهورية.
تصاعد الدخان الأبيض من «الرهبنة المريمية» يوم الجمعة الماضي، بعد انطلاق مجمعها العام العادي الذي انعقد بين 17 و 25 الشهر الحالي، في حضور المفوض الحبري المطران حنا علوان. وأسفرت النتائج، إضافةً إلى فوز رزق، عن إنتخاب كل من الأباتي بيار نجم نائباً عاماً ومدبّراً أول، والأب جهاد يونس مدبّراً ثانياً، والأب جان مارون الهاشم مدبّراً ثالثاً، والأب سمير غصوب مدبّراً رابعاً.
لا يقتصر الأمر على إنتخاب هيئة دينية أو «أباتي»، فدور الرهبانيات المارونية كان أساسياً في التاريخ الماروني واللبناني. وتُشكّل «المريمية» رهبنة حبرية مرتبطة مباشرةً بالفاتيكان، وأدت دوراً محورياً في الحرب لتأمين صمود مجتمعها، علماً أنّ البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ينتمي إلى الرهبنة المريمية. وتأسّست في عهد البطريرك اسطفان الدويهي عام 1695، وعُرفت عام 1707 باسم الرهبنة الحلبية نسبة إلى مؤسسها المطران عبدالله القرعلي من حلب، ومن ثم تغيّر اسمها عام 1969 إلى الرهبنة المارونية المريمية.
أما إدارياً فتملك في لبنان 29 مركزاً، منها 8 مؤسسات تربوية. أمّا في الخارج، فهناك مركز في كل من الولايات المتحدة الأميركية والأرجنتين والأوروغواي، إضافة إلى ديرها الشهير في إيطاليا.
وتكمن أهمية إنتخاب رزق أنه يأتي بعد سلسلة مطبّات داخلية تعرّضت لها الرهبنة ووصلت في حزيران عام 2017 إلى حدّ تدخّل الفاتيكان مباشرة وتعيينه مجلساً عاماً جديداً على رأس الرهبنة برئاسة الأباتي مارون الشدياق.
ويُمثّل الأباتي رزق جيل الشباب في الرهبنة، فهو من مواليد رعشين عام 1976 وقد وصل إلى هذا المركز في سنّ السابعة والأربعين، وهو أمر نادر في الرهبانيات، ويأتي من عالم الشبيبة والإعلام إذ كان مرشداً للشبيبة المسيحيّة في فريق سيّدة اللويزة من عام 1996 إلى 1999 ومرشداً للكشّاف اللبناني في فريق سيّدة اللويزة 2005-2011 إضافةً إلى مناصب أخرى، وله تجارب في الإعلام أيضاً، أبرزها معاون في راديو الفاتيكان – القسم العربي، ومعدّ ومقدّم برامج كنسيّة ولاهوتيّة على شاشتي «تيلي لوميار» Télé Lumière و «نور سات» Nour Sat ومترجم ومعلّق على عدّة احتفالات فاتيكانيّة على الشاشات اللبنانية.
إذاً، إنتخب الأباتي رزق في أصعب مرحلة من تاريخ المؤسسات الرهبانية ولبنان، فإذا كانت الآمال معلّقة عليه نتيجة تجاربه، إلا أنّ الحمل يبقى ثقيلاً. إنتُخب في زمن تُطالب الرهبانيات بالكثير، لأنها أعطت لبنان الكثير.
لا تستطيع الرهبنة مهما بلغت من قوة أن تحلّ محل الدولة، لكن في العقل الباطني المسيحي واللبناني تُشكّل مؤسسات الرهبنة عامل ثقة. وإذا كانت الدولة غير قادرة على تأمين التعليم والطبابة والخدمات الإجتماعية، فإنّ الرهبنة تحاول سدّ هذه الثُغر وتأمين الحدّ الأدنى من الإستمرارية. والمشكلة تكمن في عدم قدرة مدارس الرهبنة وجامعاتها على الإستمرار من دون رفع الأقساط وتلبية مطالب المعلّمين، ومن جهة ثانية لا يمكن تحميل الأهالي كل التكاليف، علماً أنّ أقساط بعض الجامعات تجاوز ما كان عليه قبل الأزمة. والأمر نفسه ينطبق على الإستشفاء، مع بروز موجة «جشع» لا ترحم.
يقف الأباتي رزق أمام منعطف كبير، فعليه تأمين الموارد المالية للمؤسسات لكي تستمرّ، كما عليه المساعدة في صمود الأهالي. ويبدو أن هناك مخططاً واضحاً لضرب صورة لبنان عبر ضرب مدارسه وجامعاته ومستشفياته وكل المؤسسات التي جعلت المسيحي يتفوّق ورفعت اسم لبنان في الشرق، وإذا كان الفاتيكان حصر الشأن السياسي في يد بطريرك الموارنة، إلا أنّ هذه المهمة الإنقاذية للمؤسسات والشعب تُعتبر أهم وأكثر فعالية، وربما أصعب مما عاناه الرهبان الأوائل الذين سكنوا في الجبال والكهوف وتعرّضوا للاضطهاد، وبالتالي تقع على عاتق الأباتي رزق وبقية الرهبانيات المسؤولية الأكبر، لأنه مثلما قال الفيلسوف شارل مالك: «يُطلب من الموارنة الكثير لأنهم أعطوا لبنان الكثير».