في 31 آذار 2020 أُعلن خبر وفاة عبد الحليم خدّام. ولكن في الواقع فقد مات الرجل قبل هذا التاريخ بنحو 20 عاماً. هو الذي كان له أن يلعب دوراً سياسياً كبيراً في لبنان وسوريا بتفويض من رئيس نظامها حافظ الأسد مات عندما خرج عملياً من الحياة السياسية ودائرة الفعل في العام 2000 عندما لعب أحد آخر أدواره وشارك مرغماً بإعداد مراسم انتقال السلطة في سوريا من الأب إلى الإبن بشار.
بعد خمسين عاماً أمضاها خدّام في ظلال حزب البعث وحافظ الأسد، أدرك أن لا مكان له بعد وفاة من خدمه بإخلاص أكثر من 35 عاماً منذ ما بين العام 1966 والعام 2000.
أدرك الرجل أيضاً أنّه لا يمكنه أن يغادر إلى الظل من دون أن يرتّب عملية التوريث. بحكم تجربته الطويلة في الحكم كان يعلم أنّ في سوريا رجلاً واحداً قائدأً وكل ما يتفرع عنه يبقى متعلقاً به وأن لا مكان للتراتبية الحزبية ولا للممارسة والعقيدة والأدوار لأنّ كل ما يدور حول الرئيس القائد يكون بقرار منه.
كان عبد الحليم خدّام يعرف أن دوره انتهى قبل أن يموت الأسد. وكان في ما تبقى له من أيام في دائرة الحكم يصرف أعماله بانتظار قرار خروجه الذي كان يتحين الفرصة ليتمكّن من اتّخاذه.
في العام 2007 كان عبد الحليم خدّام قد أصبح لاجئاً في العاصمة الفرنسية باريس. كان مضى عامان تقريباً على “فراره” من سوريا وكنت في صدد إعداد فيلم وثائقي عن تاريخ جيش النظام السوري في لبنان بعد خروجه الأخير في 26 نيسان 2005 بعد سبعين يوماً على اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وكان لا بدّ من لقاء مع خدّام في العاصمة الفرنسية لكي يضيء على المرحلة التي كان فيها ممسكاً برقبة الدولة اللبنانية خصوصاً تلك التي رافقت الدخول الأول للجيش السوري في حزيران 1976 والقتال ضد منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية قبل أن تتحوّل هذه القوّات إلى الفصيل الأكبر في قوات الردع العربية في أيلول 1976 ويتحكّم من خلالها حافظ الأسد بالقرار اللبناني.
كان خدام يقيم في فيلا جميلة داخل أحد أحياء العاصمة الفرنسية قيل أن الرئيس رفيق الحريري كان يملكها. لم يكن اللقاء معه معقداً. كان الرجل أصبح خارج دائرة القرار ويتمتّع بحماية الشرطة الفرنسية خوفاً من تعرّضه لملاحقة النظام السوري أو لعملية اغتيال. كان مضى عامان على خروجه من سوريا في أيلول 2005 وكان وحيداً مع عائلته ونجله جمال الذي تولى ترتيب اللقاء بعد اتصالات معه من بيروت. بعمر 75 عاماً بدا خدّام وكأنه في شيخوخته المبكرة. صوت ضعيف ورتيب ومتقطع وكأنّه مريض أو كأنّه بات رجلاً لا ينظر إلى الغد آملاً أنّ الأيام ستكتب له دوراً جديداً. ولكنّه في الحديث معه ظهر وكأنّه يأمل بأن يكون هناك تغيير في سوريا وبأن يكون له دور في هذا التغيير الأمر الذي عبّر عنه في تشكيل جبهة الخلاص الوطني التي بقيت ظاهرة إعلامية لم تعمّر ولم تكتب أي صفحة جديدة في تاريخ سوريا وحتى عندما اندلعت الأحداث في سوريا بعد 15 آذار 2011 لم يكن لعبد الحليم خدّام أي وجود عملي. بقي اسمه يتردّد كواحد من أسماء رافقت حافظ الأسد. وهو كان محظوظاً ربما باعتبار أنه رافقه حتى وفاته وعندما أراد أن يصنع لنفسه حياة جديدة لم يجد له مكاناً. بل وجد نفسه في دائرة الشك والإتهام وبالكاد كتبت له النجاة.
منذ العام 1966 بدأ خدّام مسيرته إلى جانب حافظ الأسد عندما كان محافظًا للقنيطرة والأسد وزيراً للدفاع وهي المرحلة التي شهدت حرب 1967 وسقوط الجولان. ثم رافقه بعدما بات الأسد رئيساً للجمهورية وصار خدّام وزيراً لخارجيته في العام 1970. وبهذه الصفة بات خدّام مكلفاً رئيسياً من قبل رئيسه بالملف اللبناني. ولأنّه كذلك كان عليه أن يتصل بالرئيس سليمان فرنجية في أيار 1973 ليطلب وقف العمليات العسكرية التي نفّذها الجيش اللبناني ضد المسلحين الفلسطينيين مهدداً بتدخّل الجيش السوري. ولأنّه كذلك بات منذ العام 1975 أحد أقطاب لقاء قمة عرمون للقيادات الإسلامية وبات هو من يقرر ماذا يفعلون وماذا لا يفعلون وهو الذي يتولى الحوار مع الرئيس سليمان فرنجية نيابة عنهم. ولأنه كذلك أيضاً كان يأتي إلى القصر الجمهوري في بعبدا وكأنّه شريك في الحكم وفي فرض الشروط على الرئاسة ولم يتوان عن النوم في القصر ومسدسه تحت الوسادة خوفاً من تعرّضه لعميلة اغتيال. ولعلّ أهمّ السجالات كانت تحصل بينه وبين الرئيس كميل شمعون الذي أطلق عليه لقب خرّيج جامعة سعسع.
بهذه الصفة أيضاً لعب خدّام أدواره كلّها في لبنان من دون أن يكون له دور مماثل في سوريا. كان مطلوباً منه أن يخيف اللبنانيين من خصوم سوريا ومن حلفائها وعملائها ولكنه في سوريا كان رجلاً آخر لا مواطئ قدم له داخل النظام ولا قوى عسكرية تأتمر به ولا عشيرة ولا طائفة يستقوي بها. بقي طوال مسيرته منفذاً لرغبات رئيس النظام ولم تكن له سلطة إلا بتفويض منه. ولأنه كذلك شارك في مؤتمري جنيف ولوزان لبحث التعيلات الدستورية في النظام اللبناني.
في العام 1984 عندما صار نائباً لرئيس النظام السوري بدا وكأنّ الملف اللبناني خرج من يده ليستقرّ فعلياً وعملياً بيد رئيس المخابرات السورية في لبنان اللواء غازي كنعان الذي كان له خطّ تواصل مستقل بالأسد من دون المرور بأي تراتبية أخرى أمنية أو عسكرية أو سياسية. صحيح أنه بات الرجل الثاني في السلطة ولكنه بالفعل كان أصبح الرجل الذي لم يعد له أي دور. مثله كان كنعان أيضاً. عندما تم نقله من لبنان إلى سوريا في العام 2002 ليتولى مسؤولية أمنية أعلى قبل أن يكون وزيراً للداخلية كان أصبح بلا فعاليّة ومجرّد وظيفة من دون أثر قبل أن تقوده التطورات إلى “الإنتحار” بعد اتهامه بأنه أدلى بإفادة أمام لجنة التحقيق الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري تدين النظام ورئيسه بشّار.
كذلك كانت عملية اغتيال الحريري طريق خروج خدّام من سوريا. منذ العام 1995 ومع التمديد للرئيس الياس الهراوي اتُّهِم خدّام بأنه بات على تنسيق تامّ مع الرئيس رفيق الحريري الذي كان النظام السوري يخضعه للمراقبة الأمنية والسياسية وكأنه شرّ لا بدّ منه. في العام 1998 أضيف إلى اللائحة اسم رئيس الأركان حكمت الشهابي ليصبح هذا الثلاثي متَّهماً بالتآمر على النظام في سوريا. هذه المرحلة شهدت انتخاب العماد أميل لحود رئيساً للجمهورية في لبنان في ما اعتُبر كرد على “مؤامرة” التمديد للهراوي وكان هذا الأمر ترافق مع صعود تيّار بشّار وفريقه داخل النظام السوري تمهيداً لمرحلة ما بعد حافظ من أجل تأمين الوراثة السياسية.
في 10 حزيران 2000 مات الأسد بعد معاناة مع المرض الذي جعله في آخر أيامه وكأنه خارج السلطة إلا بمقدار حضوره المعنوي. بحكم الأمر الواقع أصبح خدّام رئيساً بالوكالة ولكنّ دوره اقتصر على تأمين تعديل الدستور بالشكل الذي يسمح بانتخاب بشّار رئيساً وذلك من ناحية تصغير السن الذي يسمح بتبوؤ سدة الرئاسة. وهذا الأمر عاد خدّام وأعلن ندمه عليه ولكن في الواقع لم يكن بإمكانه إلّا أن يفعل. منذ تلك اللحظة في 17 تموز 2000 بات خدام شيئاً من الماضي السوري مثله مثل كثيرين ممن رافقوا حافظ الأسد لتبدأ مرحلة تركيز سلطة الإبن بشّار التي لم يكن فيها مكان لـ “الحرس القديم”. منذ ذلك التاريخ بات خدّام بحكم الرجل الميت الذي ينتظر قرار طرده أو إبعاده إو إدخاله إلى السجن. بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري بأشهر قليلة مرّ مروراً عابراً في بيروت وخرج من دون عودة. منذ خروجه في ايلول 2005 بات خارج الزمن وكأنه انتمى إلى مرحلة انتهت ولا مجال ليكون له أي دور خارجها. صار خدّام مجرد صفحات في كتب تتحدث عن سوريا وعن لبنان. خرج وكان يعرف أنه لن يعود. وأن سوريا لن تعود.