استولى «كورونا» على كل شيء. انتشر كالنار في هشيم «القرية الكونية»، وتحول هاجساً مقلقاً للحكومات والمواطنين. صار الموضوع الوحيد. نبدأ نهاراتنا بتفقد حجم الجرائم التي ارتكبها ليلاً، ونتفقد آخر إنجازاته قبل أن نذهب إلى النوم. وبين الموعدين نرى صور العالم مرتدياً الكمامات. والخبراء يسدون النصائح على الشاشات. وترتفع أصوات محذرة من أن الأسوأ لم يأتِ بعد. وأن ما بعد «كورونا» ليس كما قبله. وأن التغيير سيمس مواقع الدول. وأن الاقتصاد العالمي سيدفع باهظاً فاتورة هذا الزلزال غير المسبوق. وأن العلاقات الإنسانية ستدفع هي الأخرى فاتورة العزلة والحجر والخوف من الآخر.
وعلى الرغم من كل ما تقدم، راودتني رغبة في الفرار من هذا الموضوع الذي استولى على مقالاتنا منذ أسابيع. كنت أبحث عن عذر، وشعرت أنني وجدته حين بلغني نبأ وفاة نائب الرئيس السوري وزير الخارجية السابق عبد الحليم خدّام في منفاه الفرنسي. يضاعف الموت في زمن «كورونا» قسوة الموت. يضاعف العزلة والغربة. يرسخ الاعتقاد بأنَّ الإنسان دُفع وحيداً إلى نفق كئيب معتم معروفة نهاياته.
لم ينجُ خدّام من لعنة «كورونا». أحد أبنائه فقط استطاع مرافقة النعش في رحلته الأخيرة. المطارات مغلقة والإجراءات صارمة. ضاعف الوباء غربة الرجل الذي كان يبدو منذ سنوات أسير الغربة. الرجل الذي غادر بلاده وموقعه في نظامها، احتجاجاً على اغتيال صديقه رفيق الحريري في 2005، لم يستطع العثور لنفسه على موقع آخر. لم يعثر على شرفة أو كرسي. لم ينجح في ارتداء زي المعارض وطاردته صورة من سبح طويلاً في مياه النظام وقاموسه وتبرير ممارساته. خسر خدّام المغادر رصيده في المكان الذي أمضى عمره فيه، ولم يعثر على تعويض من العالم الذي حاول الفرار إليه. وفي مقر إقامته الفرنسي، بدا دائماً رجلاً من الماضي. يتحاشى أي قراءة نقدية صريحة لعهد الرئيس حافظ الأسد، كمن يخشى أن يرمي بعمره نفسه من النافذة. لهذا كان يتفادى توجيه الانتقادات إلى الأب، محاولاً تحميل الابن وحده مسؤولية ما آلت إليه سوريا.
من يعرف بعض خفايا السياسة السورية يعرف أنَّ خدّام الذي احتفظ بلقب نائب الرئيس خرج من حلقة القرار قبل سنوات من خروجه من البلاد. وبعض من رافقوا تلك المرحلة يعتقدون أن عهد الرئيس بشار الأسد بدأ عملياً في 1998؛ أي مع انتخاب إميل لحود رئيساً للبنان، وإن كان عليه أن ينتظر عامين ليبدأ عهده رسمياً بعد وفاة والده. هذا لا يلغي طبعاً تجربة خدّام الطويلة الغنية، إذ كان مشاركاً في ترويج سياسات الأسد الأب اللبنانية والفلسطينية والعراقية وغيرها. ولم يتردد هذا الحزبي المدني في إتقان فن العيش في نظام كان الجنرالات عاموده الفقري، في ظل القائد الذي كان يبرع في تحريك البيادق، وضخ القوة في عروق اللاعبين، ثم سحبها منهم. كان كامل الولاء للرئيس القائد، ولم يتردد في استعارة الألفاظ الخشنة لفرض سياساته، والتجريح بمحاوريه الرافضين لاعتناق القراءة السورية لأوضاع لبنان أو المنطقة.
حين بلغني نبأ وفاته تذكرت بضع مسائل سمعتها منه في دمشق وباريس. سألته ذات يوم عن انتقاد سياسيين لبنانيين أسلوبه الفظ في التعاطي معهم يوم كانت سوريا في عز قوتها، فأجاب: «أنا لم أكن ممثل جمعية خيرية، أنا كنت أتحدث باسم دولة يهمها الدفاع عن مصالحها وأمنها واستقرارها، ثم إنَّ للتفاوض أساليبه وفنونه، خصوصاً حين تعتقد أن من الضروري أن تدفع الطرف الآخر سريعاً إلى تقليص مطالبه أو تحفظاته، وأن مصلحته الفعلية هي في سلوك أقصر الطرق إلى التسوية. أحياناً، تضطر إلى التفاوض بقسوة لأن ميزان القوى ليس لمصلحتك. يحق لك أن تلجأ إلى التضليل. لقد مارسنا هذا الأسلوب مع دول كبرى، وكان مجدياً. لا أنكر أنني قسوت أحياناً على بعض السياسيين اللبنانيين، خصوصاً حين كانوا يحاولون تقديم الحسابات الشخصية والصغيرة على الحسابات التي تخص مصلحة البلدين وقضايا كبرى. سمعت كلاماً كثيراً عن هذا الموضوع. ولا أريد استفزاز أحد. لكن دعني أذكر بحقيقة أكيدة. نحن لم نطلب من وزراء لبنان أو نواب أو مسؤولين أمنيين تحويل الضابط السوري المقيم في عنجر (البقاع اللبناني) مرجعاً يومياً لهم، ولم نطلب منهم أن يكتبوا التقارير له. دائماً هناك من يتبرع، ثم يغسل يديه لاحقاً، ويبدأ في توجيه الانتقادات».
مسألة أخرى تستحق التوقف عندها. قال خدّام: «أرسل الخميني يسألنا عما إذا كانت سوريا مستعدة لاستقباله لأن بقاءه في العراق صار مستحيلاً. طبعاً، الوجود في سوريا يضمن له أمنه الشخصي، كما يضمن له مواصلة معركته مع النظام الإيراني، من دون أن ننسى البقاء على مقربة من شيعة العراق. تنبه الأسد إلى عواقب استضافة الخميني، فنصحنا موفديه بالاتصال بالجزائريين، فوافقوا بعد تردد. اتصلنا بدورنا، وحين هم الجزائريون بالموافقة، فوجئنا بفرنسا تعلن ترحيبها به في أراضيها، وهذا ما كان».
مسألة ثالثة. قال: «طلب الإيرانيون من سوريا صواريخ أرض – أرض للرد على الصواريخ العراقية في حرب المدن. لم يرد الأسد أن يسجل أن مدناً عراقية قصفها الإيرانيون بصواريخ سورية في عهده، فنصحنا الإيرانيين بالاتصال بالليبيين، وشجعنا هؤلاء. تجاوز الإيرانيون قصة اختفاء الإمام موسى الصدر خلال زيارة إلى ليبيا، وحصلوا من القذافي على ترسانة من الأسلحة».
مسألة رابعة. قال خدّام: «لم نتوقع سقوط الاتفاق الثلاثي الذي رعيناه في لبنان. كان إيلي حبيقة واثقاً بجماعته، وأبلغنا أنه ينسق مع العماد ميشال عون الذي شارك في صوغ الشق العسكري، وكانا ينسقان ضد الرئيس أمين الجميل. لم نتوقع أن يتجرأ سمير جعجع على قيادة انقلاب، بالاتفاق مع الجميل، ما أخاف عون ودفعه إلى الانكفاء».
غاب خدّام وفي جعبته كثير من الأخبار والوقائع والأسرار. فضّل الصمت، وتذرع بأن مذكراته جاهزة وتنتظر التوقيت المناسب. عززت التطورات السورية في السنوات الأخيرة إقامته في النفق الكئيب، وغادر وحيداً في زمن «كورونا».