IMLebanon

عبد الحليم خدام وكلمة السرّ

 

غاب قبل ايّام في باريس عن 88  عاما عبد الحليم خدّام. كان خدّام (أبو جمال)، الذي شغل بين العامين 1970 و 2005 موقعي وزير الخارجية ونائب رئيس الجمهورية السورية، احدى واجهات التركيبة المعقدة التي انشأها النظام الذي اسّسه حافظ الاسد والذي استطاع توريثه الى نجله بشّار. كان شرسا في تعاطيه مع الآخرين. كان الرجل الذي اختاره حافظ الأسد لتنفيذ مهمات معيّنة، خصوصا في لبنان حيث لعب دور المفوّض السامي بين 1975 و 1998.

 

بقي خدّام، السنّي الذي لا ينتمي الى احدى المدن السورية الكبرى التي كان الأسد الأب يكن لاهلها ورجالاتها كرها شديدا، يتحرّك في الهامش الذي رسمه له مؤسّس النظام الذي لا يزال قائما الى اليوم، اقلّه شكليا. كان يمتلك كلمة السرّ احيانا ولا يمتلكها في معظم الاحيان، حتّى عندما وجد نفسه على الرفّ بعد لعبه الدور المطلوب منه كرئيس شكلي للجمهورية مباشرة بعد وفاة حافظ الأسد.

 

كان مطلوبا منه اتخاذ إجراءات محدّدة من اجل ان يرث بشّار الأسد والده. اشرف على كل الترتيبات السنّي الآخر مصطفى طلاس، وزير الدفاع، الذي نفّذ التعليمات مؤكّدا مرّة أخرى انّه الخادم المطيع لسيّده منذ ما قبل «الحركة التصحيحية» في السادس عشر من تشرين الثاني – نوفمبر 1970. لم يجد «أبو جمال» نفسه سوى في وضع المُجبر على توقيع كلّ المراسيم المطلوب صدورها عن رئاسة الجمهورية كي تصبح سوريا جمهورية وراثية على غرار كوريا الشمالية.

 

كان «أبو جمال» يدرك انّه كان يوقّع قرارا صدر باعدامه سياسيا، اذ كان يعرف انّ كلّ الملفّات التي كان يتولاها، بما في ذلك ملفّ لبنان، انتقلت عمليا منذ العام 1998 الى بشّار الأسد والمجموعة المحيطة به.

 

عرفت عبد الحليم خدّام في صيف العام 1973. فهمت من خلال المناسبة التي شاهدت فيها «أبو جمال» يدخل الأراضي اللبنانية برفقة عدد من رجال الشرطة العسكرية السورية انّ لدى حافظ الأسد رسالة واضحة يريد توجيهها الى كلّ لبنان. فحوى الرسالة ان النفوذ السوري صار ثابتا في البلد الجار وان القرار في البلدين هو قراره.

 

في صيف 1973، جاء خدّام الى «بارك اوتيل» في بلدة شتورا البقاعية لعقد محادثات مع فؤاد نفّاع وزير الخارجية اللبناني وقتذاك. كان الهدف المعلن للمحادثات إعادة فتح الحدود بين البلدين. اغلق الجانب السوري الحدود بعد محاولة الرئيس سليمان فرنجية في ايّار – مايو من تلك السنة ضبط الوجود الفلسطيني المسلّح في الأراضي اللبنانية وذلك بعدما اعتبر الفلسطينيون نفسهم دولة ضمن الدولة وبعدما أصبحت مخيمات اللاجئين بمثابة جزر مستقلّة كلّيا عن الأراضي اللبنانية.

 

كان ردّ الفعل السوري مفاجئا لسليمان فرنجية الذي ربطته علاقة بحافظ الأسد واعتبره حليفا له. لم يدر في خلده ان لدى الرئيس السوري الجديد حسابات تتجاوز العلاقات ذات الطابع الشخصي بين رجلين وعائلتين. كان اغلاق الحدود السورية، مع ما يعنيه ذلك من خنق للبنان اقتصاديا، من اجل افهام سليمان فرنجيّة ان العلاقة بحافظ الأسد ليست علاقة الندّ للندّ. هناك رئيس واحد لبلدين هو حافظ الأسد.

 

قام عبد الحليم خدّام بالاستعراض الذي كان عليه القيام به في «بارك اوتيل» عبر الشرطة العسكرية السورية التي كانت تؤدي له التحيّة لدى دخوله فندقا لبنانيا، في حين تمّ الاتفاق على إعادة فتح الحدود، بموجب الشروط السورية في مكان آخر وعبر اشخاص آخرين. ما كشفه لي ضابط لبناني، كان يشرف في «بارك اوتيل» على ترتيبات امنيّة معينة لتأمين الاتصالات بين الوزير اللبناني وقصر الرئاسة في بعبدا، ان الاجتماع المهمّ انعقد بين نجل سليمان فرنجية الوزير والنائب طوني فرنجية ورفعت الأسد شقيق حافظ الأسد. عُقد ذلك الاجتماع في فيلا يملكها رجل الاعمال اللبناني المعروف بطرس الخوري في مكان غير بعيد عن «بارك اوتيل».

 

لا شكّ ان عبد الحليم خدّام كان يمتلك نفوذا في سوريا، خصوصا في عهد حافظ الأسد، لكنّ هذا النفوذ كان في اطار رسم له بدقّة متناهية. كان يعرف كلمة السرّ في بعض الأحيان فقط. لذلك، لم يتردّد في القول في احدى المقابلات بعد انشقاقه عن النظام في العام 2005 ان الجيش السوري دخل الى الأراضي اللبنانية في العام 1976 من دون استئذان احد وكان دخوله اوّلا عن طريق «جيش التحرير الفلسطيني» الذي كانت لديه وحدات في الأراضي السورية. لم يكن هذا الكلام يمت الى الحقيقة بصلة. ما اثبتته الوثائق الرسمية لاحقا ان الجيش السوري دخل الى لبنان بناء على طلب من وزير الخارجية الاميركي هنري كيسينجر وبموافقة إسرائيلية وذلك من اجل «ضبط مسلّحي منظمة التحرير الفلسطينية» على حد تعبير كيسينجر نفسه.

 

في كلّ ما له علاقة بالقضايا الكبيرة ذات الطابع المصيري، أُبقي عبد الحليم خدّام على الهامش. كان يرفع صوته في وجه السياسيين اللبنانيين تنفيذا لتعليمات صادرة له. تقلّص دوره الى درجة كبيرة في عهد بشّار الأسد وانسحب ذلك على علاقة رفيق الحريري بالرئيس السوري الجديد. لم يستطع خدام سوى تحذير رفيق الحريري في الأسابيع التي سبقت اغتياله من ان شيئا ما يعدّ له وان من الأفضل ان يغادر لبنان. في العمق، إن في عهد حافظ الأسد او في عهد بشّار الأسد، كانت القرارات الكبيرة تتخّذ في مكان آخر لا مكان فيها للسنّي، أكان عبد الحليم خدّام او حكمت الشهابي (رئيس الأركان) الذي ابعد باكرا عن أي موقع نافذ تمهيدا لخلافة بشّار الاسد لوالده.

 

امتلك عبد الحليم خدّام ما يكفي من الشجاعة للمجيء الى بيروت بعد محاولة اغتيال مروان حمادة في اوّل تشرين الاوّل – أكتوبر 2004  ثم للتعزية باغتيال صديقه رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط – فبراير 2005. تبيّن ان عبد الحليم خدّام انسان طبيعي لديه مشاعره أيضا، علما انّه بقي في كلّ وقت اسير الدور المرسوم له… وهو دور اقترب من الصفر مع ازدياد روابط اللحمة بين بشّار الأسد من جهة وايران و»حزب الله» من جهة أخرى.

 

انكشف «أبو جمال» لدى خروجه من دمشق الى باريس ليلعب دور المعارض. لم يمتلك أي مقومات تسمح له بان يكون معارضا. صار خارج المياه التي كان مسموحا له ان يسبح فيها وان يمارس بعض هوايته من نوع اذلال السياسيين اللبنانيين الذين لم يكن راضيا عليهم تنفيذا لاوامر عليا صادرة اليه. كلمة السرّ كانت دائما في مكان آخر. كان يملكها أحيانا ولم يملكها في معظم الأحيان.