عندما تحمل إسرائيل بصلافة الليكوديين على «منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم» المعروفة بـ «يونيسكو» لأن المنظمة المترفعة عن الترهات السياسية إتخذت يوم الخميس 13 تشرين الأول 2016 قراريْن على درجة من الموضوعية والحق الذي يجب ألاَّ يٌعلى عليه، في شأن فلسطين، فإنها بالكلام السيء الذي تفوَّه به نتنياهو وبعض الذين معه وحوله ضد المنظمة، إنما تُسيء إلى كل دولة عضو في هذه المنظمة بما في ذلك الدول التي عارضت (الولايات المتحدة، بريطانيا، المانيا، هولندا، ليتوانيا، إستونيا) لأنها عارضت وتلك التي إمتنعت، لأنها إختارت ذلك، وعددها 26 دولة من بينها فرنسا التي تستضيف مقر المنظمة والأرجنتين التي من المفترَض أن تكون متعاطفة مع القرارات الأممية التي تتسم ببعض الإنصاف للحق الفلسطيني.
خلاصة القراريْن اللذيْن إتخذتْهما «يونيسكو» بأربعة وعشرين صوتاً وكانت مصر ولبنان والجزائر قدمتاه طالبة التصويت عليه هي على النحو الآتي: الأول يعتبر السلطة الإسرائيلية سلطة إحتلال للقدس الشرقية ويطالب إسرائيل بإتاحة العودة إلى الوضع التاريخي الذي كان قائماً حتى شهر أيلول من العام 2000 عندما كانت دائرة الأوقاف الإسلامية الأردنية هي السلطة الوحيدة المشرفة على شؤون المسجد الأقصى. كما يطالبها بوقف إنتهاكاتها بحق المسجد، ويدعو أيضاً إلى حماية «الموروث الثقافي الفلسطيني في القدس التي هي ذات شخصية متميزة…». وأما القرار الثاني فيتعلق بالمؤسسات التربوية والتعليمية في كل الأراضي العربية المحتلة بما فيها الجولان.
الذي أزعج إسرائيل هو أن القراريْن يعززان السعي الفلسطيني الدؤوب قانونياً ودبلوماسياً لإنهاء الإحتلال والإستيطان، كما أنه ينسف إدعاءات إسرائيل في ما تشدد عليه في شأن العلاقة تاريخياً بين اليهود و«جبل الهيكل»، وهو إدعاء ترمي من ورائه إلى «أحقية يهودية» في المسجد الأقصى وكامل الحرم الشريف مما يدعم في نظرها طبعاً مسألة القدس موحَّدة وعاصمة للدولة. وعندما لم يتطرق قرار الـ «يونيسكو» إلى «جبل الهيكل» وإنما يضيف كلمة «حائط المبكى» واضعاً إياها بين مزدوجيْن فهذا إيحاء لا يحتمل الجدال بعدم تاريخية العلاقة بين اليهود و«جبل الهيكل». ومن أجل ذلك إنتفض الليكوديون يتصدرهم نتنياهو للتهجم على المنظمة الأممية بعبارات تراوح بين إتهام المنظمة بالهذيان والتنظير المستجَد المتمثل بقول نتنياهو «إن مَن يقول إنه لا توجد علاقة لإسرائيل بجبل الهيكل كأنما يقول إنه لا علاقة للصينيين بسور الصين وأن المصريين لا علاقة لهم بالأهرامات. وبهذا القرار السخيف فقدت يونيسكو ما تبقَّى من شرعيتها…»، ثم جاراه رئيس الدولة رؤوفين ريبلين (الذي خلَف شيمون بيريز) رافعاً مستوى التهجم قائلاً «ليس في وِسْع أي هيئة أو جسم في العالم أن يقول أن لا علاقة بين الشعب اليهودي بأرض إسرائيل والقدس ومَن يقوم بذلك إنما يهين نفسه وليس في وسْع أحد تغيير التاريخ…».
لم يتوقف التهجم عند هذيْن الشرِّيريْن، وربما الذي دفع المتهجمين إلى رفْع الصوت غضباً بأسلوب غوغائي هو إمتناع دولة مثل فرنسا عن التصويت على القرار. ولو أنه بدل الصراخ الإسرائيلي، كانت هنالك من جانب الصارخين وقفة تأمُّل وبعض التعقل والتعفف لكان إستحضر هؤلاء «مبادرة السلام العربية» التي أقرتها بالإجماع القمة الدورية الإستثنائية في بيروت قبل أربع عشرة سنة وتجاوبوا مع بنودها التي صيغت بمفردات تجمع بين الحكمة والحنكة والحل الموضوعي. وفي تلك المبادرة كان موضوع القدس الشرقية محسوماً، وعلى أساس أن هذا النصف من المدينة هو عاصمة الدولة الفلسطينية المأمولة في حال تمّ الأخذ بالمبادرة العربية وتمت ولادة صيغة الدولتيْن حلاً نهائياً للصراع العربي – الفلسطيني.
وها هي المنظمة الأممية الثقافية «يونيسكو» تعالج أمر مدينة الأديان السماوية الثلاثة على نحو جوهر تلك المبادرة. ولكن إسرائيل لا تزال على رفْضها أي مسعى عاقل، عِلْماً بأن كتاب التاريخ يُؤكّد حتمية أنه لا بقاء لأي إحتلال مهما طال الزمن خصوصاً إذا كان الإحتلال يشمل أرضاً تتسم قُدْسها بصفة تنفرد بها دون سائر المدن في العالم وهي أنها «عاصمة الديانات السماوية الثلاث».
هذه هي الحقيقة التاريخية التي سجلت منظمة «يونيسكو» بقراريْها الشجاعيْن نقطة الإنطلاق للمزيد من قرارات دولية متنوعة. وبذلك تكون شجرة «المبادرة العربية» بدأت تثمر وعلى نحو ما تمناه مبتكرها الطيِّب الذِكْر الملك عبد الله بن عبد العزيز.
والله العاطي والهادي.