العنصرية المقيتة والتمييز حسب اللون
هي ليست قصيدة من ديوان الأديب والرئيس السنغالي الراحل ليوبولد سنغور “قرابين سوداء ” بل هي تراث ذلك اللبناني الذي يسعى للحصول على جنسيات العالم كله ويرفض اعطاء جنسيته الى أحد. هو اللبناني الذي يستوطن أميركا وأفريقيا وأوروبا و أقاصي آسيا. ومع ذلك، تقوم ثقافته غالباً على عنصرية حادة وتمييز شديد ليس وفق الطائفة والدين فحسب، بل وعلى أساس اللون والبشرة. فلنصغِ الى قصة اللبنانية الجميلة كاترين و”السنغالي الأسود” واللبناني العنصري…
حين تصل الى بلدة سبلين الشوفية ستجد من يخبرك حكاية كاترين ابنة البلدة، البيضاء الجميلة التي تزوجت من شاب سنغالي أسود. حلّت العنصرية والتمييز العرقي فلم يعد للشهادات الجامعية وقعها. المحامي والاستاذ الجامعي صار لقبه “سنغالياً أسودَ” والإرتباط به بمثابة “عملية انتحارية”. والاهل الذين كانوا ينتظرون عودة ابنتهم لربوع بلدها فور انتهاء دراستها، ورفضوا مبدأ ارتباطها بأجنبي، صاروا يتمنون لو انها ارتبطت بشاب فرنسي مثلاً وليس بشاب أفريقي أسود. “شو بدك تغيري المجتمع؟” قالوا لها وصرخ آخرون مستنكرين “شووووو اسود” ؟
أسود ويرتدي بدلة!
صار “الأسود” صهر لبنان لكنه بقي في عرفه الاجتماعي ذاك الغريب الذي تنتمي جاليته الى فئة الكادحين العاملين على محطات الوقود وفي التنظيف. حين وصل الى بلده الثاني كان كل ما فيه مصدر استغراب، شاب أسود يرتدي بدلة؟ يجيد الكتابة والقراءة ومحامي ايضاً. سيل من الاسئلة انهال على كاترين لحظة اعلنت عن علاقتها :سنغالي ؟ أسود؟ أجابت بسخرية”لا أشقر وعيونه زرق”.
على الرغم من التغيرات الاجتماعية والثقافية ومظاهر الانفتاح التي يشهدها المجتمع بقيت العنصرية والتعامل مع الآخر على أساس العرق واللون متقدمين على القوانين والدين، وبقي معهما التهميش لشرائح اجتماعية واسعة بسبب لون البشرة او لنمط الحياة الاجتماعية التي تحيا عليه.
خاضت كاترين قوبر الحاصلة على دكتوراه في الحقوق تحدّياً مزدوجاً. تذكرة السفر التي حجزتها لرحلة التحصيل العلمي صارت وثيقة أبدية يوم قالت “نعم” للشاب الذي أسر قلبها. بدأت تمهد لمشروع ارتباطها مع استاذ الحقوق السنغالي “الاسود” سيدي ديوم . الفكرة لم تكن سهلة، مشقة إبلاغ الاهل والمحيطين تراوحت بين متقبّل ومتفهّم وممتعض الى حد المعارضة “لم يكن أهلي متحمسين لفكرة الارتباط برجل أجنبي من الاساس، وأغلب ظنهم اني سأعود حتماً لألتحق بالجامعة اللبنانية تشبّهاً بوالدي واتزوج بشاب من بلدي”.
معارضة فتفهّم
للوهلة الاولى نزل الخبر كالصاعقة “فكرة الارتباط بشاب يحمل الجنسية السنغالية اسود البشرة لاقت معارضة والدي خصوصاً الذي تلقى علومه في الخارج ويعرف معنى التمييز العنصري في بلد غير بلدك فلم يكن يريدني ان اختبره”. اما الوالدة والتي كانت من الحلقة الضيقة التي علمت بقصة الحب منذ بدايتها وتواصلت مع سيدي هاتفياً مرات عدة فبدت متفهمة اكثر من الوالد ورغم ذلك اعتبرت خطوة ابنتها “جريئة لم يسبق لأحد ان خطاها” لتسألها بعد سماع مرافعتها الدفاعية عن حبيب القلب “وهل تريدين إصلاح المجتمع وتغييره؟”.
منذ انتشر الخبر في ارجاء العائلة الكبرى وُضع الوالد والوالدة في قفص التأنيب “ما هذه الخطوة الانتحارية التي اتخذتها ابنتكما وماذا لو ولد احفادكما ببشرة سوداء كوالدهم وكيف سيتعامل معهم ابناء خالاتهم البيض؟
تم الزواج في حفل عائلي اقتصر على أقرب المقربين ودقت ساعة زيارة صهر العائلة السنغالي الى لبنان لتبدأ العروس بتلمس العنصرية مباشرة وتختبرها عن قرب ولو بنسب أقل لما يتعرض له والداها وأخوتها “زار زوجي لبنان مرتين وفي كل مرة كان يتعرض في المطار لسيل من الاسئلة غير اعتيادي ولم يسبق وان صادفه في اي مطار من دول العالم التي سافر إليها. بدا بالنسبة اليهم مستغرباً كيف ان رجلا سنغالياً ذا بشرة سوداء يرتدي بدلة وهو محام ويزور لبنان لقضاء اجازة لدى عائلة لبنانية هذا فضلا عن صعوبة منحه فيزا واضطراري للاستعانة بنافذين في الدولة طلباً للمساعدة في المرتين”.
عنصرية مقيته تلك التي لمسها المحامي السنغالي في لبنان بدءاً من بوابته التي يفترض ان تفتح ذراعيها بحفاوة لاستقبال الوافدين من دون أدنى تعاطٍ عنصري على اساس العرق او الجنس اوحتى البشرة” عومل معاملة مختلفة في مطار بيروت لم يسبق ان لمسها، انزعج بالتأكيد لكنه تجاوز الأمر لاحقاً”. وكما هو كذلك أهله وعائلته في السنغال الذين لم يصدقوا ان عائلة كاترين ستتقبل فكرة زواجها من رجل سنغالي وفوجئوا بان الزواج تم” و”اعتبروه إنجازاً”.
سمراء وليست سوداء
مر القطوع الاول بأقل الاضرار ولو ان الكلام العنصري والتهكّم لم يزلا يترددان على مسامع الوالدة فتتأثر به وتتصدى له. وكذلك كان القطوع الثاني بعدما رزق العروسان بفتاة صغيرة بشرتها تميل الى الاسمرار ما شكل صدمة لإحدى القريبات التي لم تستطع كبت ما شعرت به فرفعت صوتها تقول:”اسم الله سمرا، اسم الله سمرا …بس الحمد لله لون بشرتها ليس أسود كلون بشرة والدها”. الطفلة الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها العامين بعد حلت ضيفة مدللة وسط عائلتها اللبنانية لكن الحسرة بقيت واحدة وهي ان قانون الجنسية في لبنان والذي يتنافى مع مبدأ المساواة بين المرأة والرجل، يتعامل مع المرأة بدونية فيمنع عليها حق إعطائها الجنسية لعائلتها في حين يحق للرجل، إعطاء جنسيته لزوجته الأجنبية ولأولاده تقول كاترين “فكرة ان الأم اللبنانية لا تمنح الجنسية لأولادها مستفزّة ومؤثّرة. لم أكن أعِير الموضوع أهمية لأني لم اختبره عن قرب ولكني اليوم أشعر بالظلم “.
تقارن كاترين بين تجربتها وتجربة ابناء أعمامها المتزوجين من اجانب “ابنتي داليا تتحدث العربية وتفهمها بخلاف اولادهم ومتيقنة انها ستزور لبنان اكثر من اولادهم وبينما يمنع علي منحها جنسيتي بينما نال اولادهم الجنسية اللبنانية”.
الصعوبات هنا لا تتعلق بالجنسبة وحدها، تكفي المعاملات المطلوب انجازها لزوجها وابنتها في كل مرة يزوران فيها لبنان للتعرف على حجم المعاناة “زوجي من التابعية السنغالية التي يعمل ابناؤها كعمال في لبنان ولذا على زوجي إجراء معاملات الدخول على هذا الاساس لولا اني استعين بوساطة مسؤول كبير في الدولة كي نحصل على الفيزا وفي خلال اسابيع وإلاَ لا نحصل عليها الا بعد وقت طويل”. المعاملات ذاتها تنجزها لابنتها السنغالية على الورق واللبنانية الإقامة صيفاً “انزعج لأن ابنتي لا تحمل الجنسية اللبنانية خشية ان تتغير الظروف وتضطر للعيش في لبنان فهل يتوجب عليها إجراء معاملات ادارية كأي عامل أجنبي؟”. لا تخفي ان شعور الندم يساورها في كل مرة تتعقد فيها معاملات زيارتها والعائلة “أقول أحيانا لو كنت تزوجت لبنانياً لصارت الامور بشكل أسرع وأسهل لكني سرعان ما أعود الى واقعي وأفتخر بارتباطي برجل سنغالي”.
الجنسية المستحيلة
كانت صدمة الزوج كبيرة لعلمه استحالة ان تحمل ابنته جنسية والدتها، حتى معاملات الولادة وجدها معقدة في السفارة اللبنانية وتستغرق وقتاً طويلاً على عكس التسهيلات التي تقدمها سفارة بلاده في فرنسا “لا شروط ولا تعقيدات لنيل الجنسية لي ولابنتي”. اما المفارقة الصعبة فهي ان السنغال كدولة لا تمانع في منح الجنسية للأم المتزوجة من رجل اجنبي!
رحلة تحدٍّ تخوضها كاترين سهّلها وجودها خارج لبنان وجنّبها سماع ما يسمعه والداها من انتقادات او اسئلة تعبّر عن نظرة اللبناني الدونية الى غيره من الجنسيات، اختبرت عينة منها يوم سألها أحد أقاربها “هل يجيد زوجك القراءة والكتابة؟ صعقها السؤال وتعاطت معه بمرونة “هو محام وأستاذ جامعي” ليبقى سؤال العم بسيطاً امام استغراب الصديق المثقف والمسؤول في الدولة “تزوجتِ رجلاً أسود؟”
وعلى الرغم من ذلك لم يعد يشكل الارتباط برجل اسود حساسية لديها بقدر ما يزعجها ويخجلها كيف ان الجزائر والمغرب وغيرهما من الدول العربية تجيز حق منح الام الجنسية لأولادها باستثناء لبنان الذي ينظر بدونية الى غيره من الجنسيات “يسخرون منا في الخارج حتى بت أخجل ان أصارح أصحابي الأجانب بصعوبة منح جنسيتي لأولادي والموضوع يتسبب بإحراج كبير لي أمامهم وأمام زوجي”.
المواجهة
لا تشعر كاترين نفسها بانتقادات المجتمع لارتباطها بشاب أسود على الرغم من مؤهلاته العلمية العالية، ذنبه بشرته السمراء والانطباع الراسخ في ذهن اللبنانيين ان الجالية السنغالية في لبنان تعمل في مهن التنظيف وعلى محطات الوقود. رفضت الاسقاطات والاحكام الجاهزة وصبت اهتمامها على قضية اعتبرتها معركتها الحقيقية وهي تحصيل حق منح جنسيتها لابنتها “اعمل بالتعاون مع فريق من المحامين في الخارج على إعداد الآلية اللازمة لاثارة الموضوع من الناحية القانونية” رغم علمها “ان العقبات الاساسية امام اي مشروع لبناني من هذا النوع مرتبط بأسباب سياسية ديموغرافية دينية قررت ان الأم اللبنانية لا يجب منح جنسيتها لأولادها”.
اخذت كاترين على نفسها المواجهة والتصدي لأي تهكم يطاول زوجها بسبب جنسيته او لون بشرته، بينما لم يعد زوجها يلتفت لطريقة تعاطي اللبنانيين داخل المطار وخارجه، عدم معرفته اللغة العربية أسعفه وفي قرارة نفسه حسمها ان اللبنانيين لم يتجاوزوا بعد مسألة لون البشرة الأسود او انهم لا يزالون أسرى عنصريتهم التي يتقصدون من خلالها تهميش الآخر بطرق مختلفة.
وعلى حد ما قالت كاترين “نحن شعب نعتقد اننا نفهم بكل شيء واننا أفضل شعب في العالم في وقت نحن بعيدون جداً عن التطور الفكري” ولأن التنوع غنى “تحرص وزوجها على نقل الثقافة اللبنانية الجميلة والثقافة السنغالية الحلوة لتختار ابنتهما مستقبلاً ما يناسبها من هاتين الثقافتين”.