… وكان لا بد من خاتمة لحياة هذا «الكبير من بلادي» فؤاد بطرس، وهكذا رحل القاضي الذي أدخله الرئيس الراحل فؤاد شهاب إلى حلبة السياسة في أوائل الستينيات وزيراً، واستبقاه الرئيس الراحل الياس سركيس في الخارجية طيلة عهده.
على امتداد السنوات الماضية، كنا نلتقي دورياً في منزل فؤاد بطرس، قلة من الصحافيين المعنيين بهموم الوطن وبؤس أحوال أهله. وكان دائم السؤال عن الدولة المفككة ومصيرها، عن العلاقات مع سوريا وتطوراتها، عن القوى السياسية وانقلاباتها. وكان يتحصن في واقعيته التي يراها البعض تشاؤماً، في حين كانت تعبر عن رأيه في عجز النظام عن تطوير نفسه، وإفلاس الطبقة السياسية التي تبارت في استثمار طائفية النظام لتحقيق مصالحها الخاصة.
لا يشبه فؤاد بطرس أياً من السياسيين اللبنانيين، بل إنه كان يأنف أن يرى نفسه واحداً منهم.. ولقد اختلف مع غالبيتهم وعنها، سواء حول العلاقة مع سوريا التي كان يرى ضرورة الحرص عليها متينة، برغم الاختلاف في الموقف، ومع التسليم بأهمية وخطورة الدور الذي لعبه الرئيس الراحل حافظ الأسد في السياسة العربية وعلى المستوى الدولي.
استقلالياً عاش فؤاد بطرس حتى قارب المائة عام.. ومن هنا إنه لم يعجب إلا بفؤاد شهاب رئيساً. وهو الأبرز، بالتأكيد، بين من شغلوا منصب وزير الخارجية، والأكثر صدقاً واستقلالية في العلاقات مع الدول العربية، وسوريا بالذات، والأصرح في موقفه من القضية الفلسطينية وخشيته من توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.
وبرغم يأسه من «النظام الفريد»، أو بسبب من هذا اليأس، شارك بحماسة في محاولة لإصلاحه عبر الإصرار على تعديل جذري لقانون الانتخابات يشكل نقلة نوعية في اتجاه أن يكون «ديموقراطياً» ومعبراً عن إرادة الأكثرية، وهو ما عرف بـ «القانون الأرثوذكسي».
صعب على «القاضي» أن ينخرط في اللعبة السياسية في لبنان، وأن يسلم بنظامه السياسي، ظالم أهله، ومحقر كفاءاتهم وثقافتهم… وأصعب أن يسكت عن الأخطاء، بل الخطايا التي ارتكبها بعض من تعاقب على السدة فأساء إلى الوطن الصغير، إما لأنه ناقص الكفاءة، وإما لأنه انتهازي يرى في المنصب أقصر طريق إلى «الثروة» وليس إلى الخدمة الوطنية.
لقد فقد لبنان برحيل فؤاد بطرس أحد القلائل من «الرجال المحترمين»، وأحد الذين حاولوا الإنقاذ بالإصلاح فتعذر عليه ذلك كما على الذين قبله ومعه، وأخطرهم الرئيس الذي اغتاله نظامه: فؤاد شهاب.
رحم الله كبيراً من بلادي: فؤاد بطرس.
في انتظار قيادات للغد..
نعرف جميعاً أننا نعيش في مرحلة انتقالية نخاف فيها من يومنا على غدنا… ولكن لا بد من التخلص من الشعور بالفجيعة والتحرك لإنقاذ الغد.
÷ نعرف أن سوريا ما بعد الحرب فيها وعليها ستكون بحاجة إلى المساعدة ولن تكون مصدراً للدعم.. لكن عداءها سيظل مكلفاً، وبالتالي فلا بد من إعادة صياغة الموقف منها بما يحفظ الوحدة الوطنية من التفكك والانقسام بعنوان سوري. ليست لدينا القدرة على إنهاء الحرب، ولكننا نستطيع أن نكون عاملاً مفيداً في حصر الأضرار، وتأكيد احتياج العرب جميعاً، ولبنان بالذات، إلى سوريا موحدة ومعافاة.
÷ إن تجربة الماضي تؤكد أن السعودية ليست «العرب» جميعاً، كما أن هذه المملكة المذهبة ليست الممثل الشرعي والوحيد للغرب بقيادته الأميركية.
ومؤكد أن الحكم بإعدام المناضل الفذ الشيخ نمر النمر لطخة عار على جبين الأسرة الحاكمة التي فرضت اسمها على الأرض المقدسة التي شرّفها الله برسالة الدين الحنيف التي حملها الرسول العربي محمد بن عبد الله.
وإنها لمفارقة لا مثيل لها عبر التاريخ أن تحمل أرض النبوة اسم أسرة احتلت أرجاء تلك المنطقة بالسيف، وفي ظل تواطؤ معلن مع دول الاستعمار، قديمه البريطاني وحديثه الأميركي.
÷ لولا رعونة الحكم السعودي ومغامراته العسكرية، مباشرة كما في اليمن، وعبر «الوكلاء» كما في الحرب في سوريا وعليها، لكان ممكناً المراهنة على أن تلعب هذه المملكة دوراً طيباً في إعادة الحياة إلى «الدولة» في لبنان… أما وأنها قد غدت طرفاً محارباً في اليمن، وفي سوريا، ولو بالواسطة، وضد إيران، بتغذية نار الفتنة التي تصيب في طريقها العراق، فقد غدت في موقع الخصم، مغذي مشاريع الحرب الأهلية آكلة الدول… وربما تسقط هذه المملكة المذهبة ضحية مغامراتها.
÷ برغم ذلك كله فمن المرجح أن يكون العام 2016 عام التسويات، أو ـ أقله ـ المباشرة في إنجاز التسويات، في كل من سوريا، العراق، اليمن، ليبيا.. فضلاً عن تونس.
ومؤكد أن هذه التسويات ستتم بغطاء دولي: روسي ـ غربي، مع دور إيراني لا يمكن شطبه وإن كان سيتم تحديده بحيث يظل مؤثراً في لبنان، مساعداً على الحسم في سوريا، أساسياً في العراق على حساب روسيا، إلا إذا تمت صفقة كبرى مع الأميركيين على مستوى المنطقة ككل… ودائماً في غياب أهل المنطقة أو في ظل حضورهم رمزياً.
÷ ليس الشيعة العرب إيرانيين بالمطلق،
وليس السنة العرب أتراكاً بالمطلق.
والمجال يتسع لتسوية تاريخية تأخذ بالاعتبار التكوين الفعلي والدائم للعراق، مع تحديد مساحة الاستقلالية الكردية بالفدرالية.
÷ المشكلة ـ الأساس التي تعطل هذه التسويات المطلوبة: الافتقار إلى قيادات تاريخية في أرجاء هذه المنطقة بعنوان مصر..
لا بد من مصالحة تاريخية بين السنة والشيعة، سياسياً.. خصوصاً وأن الجميع يدركون أن الانقسام ينذر بأن يتحول إلى خصومة دائمة مؤهلة لأن تفجر المنطقة بحروب لا تنتهي..
وإيران مطالبة بدور تاريخي: أن تكون صديقة العرب كعرب، لا كطوائف.. وأن تتجاوز رابطة الطائفة إلى رابطة الدين، والأهم رابطة المصالح، فلها مصالح مشروعة في المنطقة لن تحميها طائفة واحدة، بل يحميها أن تتعامل مع العرب كعرب، وليس بواقعهم الراهن بل بوجودهم الدائم بوصفهم أهل البلاد، وبطموحاتهم إلى مستقبل أفضل، كالذي حققته إيران بالثورة.
أما تركيا فقد انزلقت إلى موقع الخصم، وربما العدو القومي، بشهادة علاقتها الوثيقة والتي لم تنقطع يوماً بل ولم تضعف، مع العدو الإسرائيلي: لماذا تريد تركيا قاعدة عسكرية في قطر التي سبقت فانفردت بعلاقة خاصة مع عدو العرب أمس، واليوم وغداً.. إسرائيل؟
لنتفاءل، برغم المحن… وليكن عامنا الجديد أقل بؤساً من سابقه.