التغييرات والتحولات الجيوسياسية التي يشهدها العالم تتسارع، تسابق الزمن، بل لنعترف إنّها تتفوق على ما اعتدنا أن ندركه. أدوار الدول ومراكز الثقل الاستراتيجي والدبلوماسي كلها تتغير، وربما منظومات القيم لبعض المجتمعات. الحدود وحدها هذه المرة غير قابلة للتعديل. أربعة متغيرات بارزة شهدتها الأيام القليلة المنصرمة يمكن التوقف عندها لمحاولة استقراء المسارات السياسية والإقتصادية الجديدة على المستويين الإقليمي والدولي، وتساؤل مشروع يتبادر إلى الذهن من قبيل الواقعية وحتمية التغيير.
المتغيّر الأول هو نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العائد إلى الشرق الأوسط من بوابة الأزمة السورية، في تشكيل النقطة المركزية في الانشطة الدبلوماسية الدولية والاقليمية المعنية بالازمة، إلى جانب موقع الريادة الذي تضطلع به روسيا في الميدان السوري. أطر التنسيق العسكري التي أنجزت شملت الولايات المتحدة وإسرائيل والعراق وإيران وبغداد وربما تركيا، بالإضافة إلى سوريا الممانعة «البلد المضيف»، إلى جانب اللقاءات الدبلوماسية التي تكثفت بكل اتجاه، لا سيما بعد حضور الأسد منفرداً إلى موسكو، والتي شارك بها وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا والمملكة العربية السعودية وتركيا، واستلحقت باجتماع وزير الخارجية السعودي بنظيره المصري في القاهرة وبلقاء وزير الخارجية العماني بالرئيس السوري. الدبلوماسية الروسية أظهرت مستوى رفيعاً من الأداء والرعاية الواثقة وهي تمتلك دون شك الكثير من الأوراق وربما هامشاً كبيراً من الحرية في تقديم التنازلات.
المتغيّر الثاني هو ما عبّر عنه الرئيس بوتين، في اللقاء الحادي عشر لنادي «فالداي للحوار الدولي» الذي عقد الأسبوع المنصرم، بحضور مئة وثمانية خبراء، ودبلوماسيين ومؤرخين وإعلاميين وباحثين من خمس وعشرين دولة، مستعرضاً باسهاب المرحلة الاحادية الأميركية التي أدّت إلى تأجيّج الصراعات المذهبية والعرقية، وإرباك إقتصادات عدد كبير من الدول وإستباحة حدود الدول وسيادتها. لقد حدّد بوتين خيارات روسيا بالمُضي في تعزيز الديمقراطية والمؤسسات الإقتصادية الحرّة وتعزيز النمو الداخلي مع الأخذ بعين الإعتبار المظاهر الإيجابية للعالم الحديث وتماسك المجتمع الروسي على قاعدة القيم التقليدية للمجتمع والروح الوطنية، مشدّداً على أن روسيا لا تريد أي موقع حصري لها في العالم ولكن ما تريده هو احترام العالم لمصالحها بالمعنى الإيجابي متعهداً بالمقابل باحترام مصالح الآخرين ومُذكّراً بالأجندا السلمية والإيجابية والتي تهدف إلى التكامل من خلال «إتّحاد أوراسيا الاقتصادي» و«منظّمة شنغهاي للتعاون» و«منظّمة دول البريكس». المتغيّر غير المألوف الذي عبّر عنه بوتين هو في طرح إطار جديد ناظم للعلاقات الدولية عندما قال: «لقد نجحنا في الماضي في وضع قواعد للتعامل بعد الحرب العالمية الثانية، كذلك نجحنا في التوصل إلى اتفاق «هيلسنكي» في منتصف السبعينات. أنّ واجبنا اليوم أن نكون بمستوى الاجابة على هذا التحدّي الجديد في هذه المرحلة الحساسة».
المتغيّر الثالث هو زيارة الرئيس الصيني «تشي جين بينغ» إلى المملكة المتّحدة خلال الأسبوع المنصرم والتي تؤشر لصفحة جديدة من العلاقات الإقتصادية بين الدولتين، وتكرس الدور الإقتصادي للصين على المستوى الأوروبي وتُسدل الستار على تاريخ من الإستعمار الإقتصادي فرضته بريطانيا على الصين. من المفيد التذكير أنّ البوارج البريطانية استولت على ميناء هونغ كونغ لأكثر من قرنين وفرضت على الصين إستيراد الأفيون ثمناً للشاي، وأغرقتها بمنتجاتها الصناعية وأفرغت خزائنها من الأموال. لقد مارست بريطانيا في ذلك الوقت أقسى درجات التمييز العنصري حين حرمت الصينيين من دخول الأحياء الأوروبية في شنغهاي وبيكين بلوحات صريحة كُتب عليها ممنوع دخول الصينيين. الأسبوع الفائت جال الرئيس الصيني في شوارع عاصمة الأمبراطورية البريطانية السابقة في عربة تجرها أحصنة وبجانبه رئيس مجلس العموم البريطاني. لم يفت الرئيس الصيني، بعد توقيع جملة من الإتفاقات الإقتصادية، أن يخاطب البريطانيين بوضوح وصراحة مشيراً إلى حاجة بريطانيا إلى الصين لتحديث ثروتها الصناعية والتكنولوجية، حين قال بصراحة ووضوح: «أنتم في حاجة إلينا» مختصراً بهذه الكلمات الأربع الرد المناسب على هيمنة غربية دامت لقرنين.
المتغيّر الرابع هو المناورات العسكرية المشتركة التي تجريها البحرية الإيرانية مع البحرية الروسية في بحر قزوين، وتصريح قائدها الأميرال «حبيب الله سياري» بأنّ البحرية الإيرانية قادرة على التصدي لزعزعة الإستقرار في بحر قزوين، وعدم السماح لدول أجنبية غير مشاطئة بالوجود فيه، لأنّ لإيران مصالح يجب أن تحافظ عليها في هذا البحر. في مقام آخر، يقول نائب وزير النفط الإيراني أمير حسين زماني نيا، أنّ مؤتمراً دولياً في شأن عقود النفط الإيرانية سيُعقد في طهران الشهر المقبل وأنّ شروط وزارة النفط فيما يتعلق بحضور الشركات الأجنبية في إيران هي صناعية وتجارية لا سياسية، لافتاً إلى أنّ شركات نفط من النمسا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا أجرت محادثات في شأن تعاون نفطي مع طهران.
التساؤل المنطقي الذي يجب أن نستدرج أنفسنا لاستحضاره والإجابة عليه في ضوء مرونة الدول الإقليمية أو الغربية في التلاؤم مع مصالحها، وتغيير جدول أولوياتها لضمان أمن وازدهار مجتمعاتها خاصة بعد الإنجازات التي فرضتها العملية العسكرية في اليمن، ونجاح الائتلاف العربي باستعادة المبادرة الميدانية إلى جانب النجاح الدبلوماسي في تثبيت العملية السياسية، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه الدبلوماسية العربية، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، في إطلاق العملية السياسية في سوريا على قاعدة تطبيق بنود مؤتمر «جنيف1»، ما هي محددات الأمن القومي العربي وكيف يمكن إعادة بناء دور فاعل للعالم العربي في ضوء المتغيّرات التي يشهدها الشرق الأوسط؟ وهل يمكن إعادة اطلاق «معاهدة الدفاع العربي المشترك والتعاون الإقتصادي تماشياً مح رغبة بوتين بإنتاج معاهدة «هيلسنكي2».