«مر الكلام زي الحسام يقطع مكان ما يمر
أما المديح سهل ومريح يخدع لكن بيضر
والكلمة دين من غير إيدين بس الوفا عالحر» (أحمد فؤاد نجم)
عبثاً حاول المفكرون الماركسيون اختصار تاريخ البشرية بمقولة «صراع الطبقات»، أي أن الحقد الطبقي، أي حقد الأغنياء على الفقراء المتمثل بالاستغلال والحرمان، أو حقد الفقراء على الأغنياء حسداً، فكل المؤشرات التاريخية تؤكد أن الصراع كان أساسه دائماً التنافس بين الأفراد والمجموعات على الموارد وعلى السلطة التي تعطي مجالاً أرحب للسيطرة على الموارد، وحتى الحروب المقدسة لا تخرج كثيراً عن ذلك.
أما فرضية صراع الطبقات فقد أتت عبر اجتهاد فكري فردي لماركس بناءاً على منطق «الجدلية» الذي أتى أساساً من خلال اجتهاد فكري من قبل هيغل. لكن الإخفاق الأهم في تحليل ماركس كان التنبؤ بالمستقبل من خلال تأكيده «حتمية انتصار البروليتاريا» وحلول «اليوتوبيا».
عبقرية فلسفة هيغل تكمن في أنها يمكن تطبيقها على كل الظواهر الطبيعية الكونية الكبرى وصولاً إلى أصغر وحدات الوجود، مروراً بالعلاقات بين المخلوقات الحية. هيغل لم يتنبأ بحتمية مستقبلية لصراع الأضداد، لكنه افترض أن التوجه هو إلى الحرية المطلقة بنهاية صراع الأضداد، أما الراع إلى ذاك الحين فهو يسير بشكل حلزوني، وهو مرهون بالتوازن الناتج عن كل وحدة صراع، لينتقل نتاج الصراع إلى مواجهة مع ضده الناتج عن صراع آخر، وبالتالي لم يتوقع نهاية واضحة مثل اليوتوبيا الشيوعية مثلاً…
عندما حلم ماركس حلمه الطوباوي ودعا عمال العالم الى أن يتّحدوا لتسريع «انتصارهم الحتمي» وتعجيل «ديكتاتورية البروليتاريا»، كان يظن أن انكلترا، حيث كان الوجود الأعظم للبروليتاريا والتجمع الأكبر لرأس المال، ستكون أول موقع تنتصر فيه طبقة العمال.
أظنه كان سيصاب بالصدمة والإحباط لو أنه عاش ليشهد انتصار أول ثورة «للبروليتاريا» في بلد مثل روسيا حيث كانت طبقة العمال فيه لا تشكل إلا جزءاً صغيراً من مكونات المجتمع. عملياً لم تكن الثورة في روسيا إلا حلقة إضافية في انقلاب موازين القوى من سلطة الإقطاع ورجال الدين المرتبطة أساساً بكتلة من الأساطير، إلى سلطة البرجوازية (أو عقلية المدن والفكر المادي التحليلي)، وذلك بعد مراكمة جهود فكرية فردية من إبن رشد، مروراً بمكيافيلي ولوك وكانت وهيغل وديكارت وروسو…
في روسيا أمسكت زمام السلطة طبقة من البرجوازيين باسم البروليتاريا وقررت قيادة العالم نحو اليوتوبيا بمجهود جماعي لا مكان للفرد فيه. لكن ستالين نفسه، سرعان ما استدرك الحاجة إلى تمييز الأفراد حسب جهودهم، فكان التمييز معنوياً من خلال لقب «بطل الاتحاد السوفياتي» مثلاً، وسرعان ما أدخل بعض التمايز المادي من خلال تنوع صغير في المعاشات الشهرية مبني على التراتبية وتوزيع مسؤولية العمل، وهذا النهج بالذات يعد ارتداداً أساسياً عن فلسفة المساواة التامة.
معظم الدراسات الموضوعية والحيادية أكدت أن السبب الأهم لانهيار الاتحاد السوفياتي، ومعظم دول «الديموقراطيات الاشتراكية»، هو تدني مستوى إنتاج الفرد في الميادين الاقتصادية والعلمية والثقافية كنتيجة مباشرة لندرة المبادرة الفردية، طالما أن هذه المبادرة لا تجد طريقها إلى تمييز صاحبها عن الآخرين.
البروليتاريا التي تحدث عنها كارل ماركس كانت تتمثل في عمال المناجم والمصانع الذين كانوا بالفعل مستعبدين بشكل وحشي من قبل رأسمال أرعن كان يشق طريقه إلى مواقع السلطة مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. في هذا الإطار لا يمكن إلا تثمين نضال الآلاف من العمال والمتنورين، وأكثرهم من اليساريين، الذين قادوا معارك تحصيل المكتسبات للعمال على مدى قرن ونيف من الزمن.
لكن اليوم، فإن قواعد العمل تغيرت، وأصبح الشرط الأول لتحسين الظروف المعيشية لأي مجتمع هو التعاون الموضوعي بين رأس المال والعمال أو الموظفين أو المستخدمين أو التقنيين العالي التدريب، ومكافأة أي تمايز أو إبداع بالشكل المناسب لتشجيع المبادرة الفردية، وكل هذا يمكن ترجمته عملياً في كلمة «النمو الإقتصادي»، الهاجس الدائم لأي حكم يسعى للنجاح اليوم، حتى في الصين التي ما زال يحكم رأسماليتها الحزب الشيوعي الصيني العظيم.
لماذا كل هذا الكلام الآن؟!
لقد أوجعني كلام وتصرفات شعبوية لرفاق وأصدقاء أعلم علم اليقين صدق مقاصدهم في الحديث عن مكامن الفساد، مع أنني أعارض بشدة أقوالهم وأفعالهم عندما عادوا إلى الشعارات الخشبية حول السلطة ورأس المال، فكلامهم المحق يختلط مع الشعارات لتضيع المسؤولية، لأن الكلام عن الفساد شيء وكيفية علاج الأزمة الإقتصادية شيء آخر. المؤكد هو أن الكثير من الفساد في لبنان ناتج عن تواطؤ منطقي بين السياسيين وجمهورهم، وهو عملياً ما أنتج صعوبة أو استحالة العلاج دفعة واحدة. وما يمكن القيام به هو اتخاذ إجراءات شفافة كمرحلة أولى تطال الحالات النافرة المتعلقة بالمعاشات الخيالية والمضاعفة في كل المواقع، مع رفع اليد عنهم من قبل مرجعياتهم، كما يشمل إجراءات تضمن الشفافية في علاقة السياسيين مع كسب المال العام وأفضلياتهم في المال غير العام، ومن هنا الزهاب إلى إعادة هيكلة الحقل العام وترشيده لموازنة الفعالية والإنتاجية مع الكلفة على الخزينة. في الوقت ذاته على الحكم أن يصارح الناس بتداعيات عدم الإصلاح من دون تهويل ولا تقليل، وبما أن الحكم هو إئتلافي، فإن أي محاولة تنصل شعبوية من الشركاء في الحكم ستؤدي حتماً إلى انهيار الهيكل.
بعض أصحاب رؤوس المال بقوا يعاندون القدر والخسارة المتراكمة لأشهر قبل الاستسلام للمحتوم، وأنا لم أفكر كثيراً بهم، بل كنت أفكر الآلاف من العمال يخسرون معاشات آخر الشهر، على ضآلتها، وملاذهم الوحيد من الذهاب في مغامرة بحرية كغيرهم هو أن يقرر مناضل رأسمالي أن يعود ويغامر في بلد أصبح عدو العامل فيه من يطالب بحقوقه بشكل شعبوي، وحليفه الوحيد مستثمر يسعى إلى الربح من تجارة أو معمل أو شركة، وكلما زاد ربحه، نقص عدد العاطلين من العمل ونقص عدد المبحرين إلى المجهول.