في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2014، تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما، عن السياسة الفاشلة تجاه كوبا، التي اتخذها قبله عشرة رؤساء. وقال في نهاية حديثه، إنه يتوقع نتيجة مخيّبة لآمال الأميركيين في حال استمرت واشنطن في ممارسة سياسة التهديد ضد النظام الذي أسسه فيدل كاسترو.
لهذه الأسباب وسواها، اقترح أوباما على الكونغرس ضرورة اعتماد سياسة أكثر انفتاحاً على كوبا… وأكثر ارتباطاً بمستقبلها الاقتصادي.
وحقيقة الأمر، أن الرئيس دوايت آيزنهاور هو الذي دشّن سياسة المقاطعة مع نظام كاسترو سنة 1959. وقد التزم بهذا الخط المعادي عشرة رؤساء من بعده، الى حين وصل الى سدة الرئاسة في هافانا سنة 2008 راوول كاسترو.
المقالات التي غطت الحقبة الكاستروية بررت موقف الولايات المتحدة بالادعاء أن كوبا كانت تمثل الشراكة الوثيقة مع الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة. وقد أنتجت تلك الشراكة تحولات عميقة في أميركا اللاتينية وأفريقيا أدت الى نشوء حركات ماركسية متطرفة رأت فيها واشنطن خطراً مباشراً على مصالحها الحيوية. في حين اعتبرتها وكالة الاستخبارات المركزية (سي. آي. إيه) قوة متقدمة تخدم مصالح موسكو في دول العالم الثالث.
أثناء تسلّمه جائزة نوبل سنة 2009، ألقى الرئيس أوباما خطاباً في أوسلو لمَّح فيه الى أهمية فتح باب الانفراج أمام الأنظمة الديكتاتورية. وكان بذلك التلميح يشير الى دول كثيرة مثل كوبا التي وصلها مع زوجته ميشال هذا الأسبوع، بصحبة أكبر وفد من شيوخ الكونغرس. وقد رحّب به الرئيس راوول كاسترو، مُذكِّراً بأن هذه الزيارة التاريخية أحيت خطوة الانفتاح التي قام بها آخر رئيس أميركي قبل تسعين سنة، هو كالفن كوليدج.
ويُستفاد من الخطب واللقاءات الصحافية التي شهدت ثلاثة أيام من تطبيع العلاقات بين خصمَي الحرب الباردة، أن أوباما عازم على تحقيق هدفين: الأول، توقيع اتفاقات اقتصادية وتجارية وسياحية يصعب على وريثه في البيت الأبيض إلغاؤها. والثاني، الإعلان بأن الثورة الكوبية انتهت، وأن الشعب لم يعد يتطلّع نحو جارته الكبرى في الشمال كقوة إمبريالية طاغية.
والثابت أن نظرة الكوبيين الى الولايات المتحدة ظلّت مشوبة بالحذر، خصوصاً بعدما شجّع الرئيس جون كينيدي (1961) أعداء الثورة على افتعال الهجوم الفاشل في منطقة «خليج الخنازير». ولم تكن حادثة «خليج الخنازير» المحاولة الوحيدة التي جربت بها الولايات المتحدة إسقاط النظام الذي أعلنه فيدل كاسترو سنة 1959. وكان ذلك بعد نضال طويل ضد نظام باتيستا الذي غرق في الفساد والرشاوى ومخالفة القوانين. وكل ما عُرِفَ في حينه عن ذلك الديكتاتور، أنه يملك سبعين شركة تجارية، إضافة الى مصرف وأربعة معامل سكر، وجريدتين يوميتين، وسلسلة فنادق، ومحطات إذاعة.
وفي عهد باتيستا، انتعشت صناعة كازينوات القمار التي كانت توزّع أرباحها على الوزراء بعد اقتطاع الحصة الكبيرة لرئيس الجمهورية. وقد ابتكر ذلك الرئيس أفكاراً مغرية، بحيث أنه خفَّض أسعار السفر من فلوريدا الى هافانا بهدف جذب المقامرين.
مطلع سنة 1958، حقق كاسترو انتصارات عدة بواسطة الثوار الذين دعمهم الشعب بقوة ضد الطاغية باتيستا. كذلك، أيدت إدارة الرئيس آيزنهاور حركة التمرد والعصيان، بحيث أن مروحياتها العسكرية كانت ترمي لهم الأسلحة الخفيفة والأغذية بواسطة المظلات. وهكذا استطاع الشاب الذي لا يزيد سنّه عن 32 سنة، أن يصمد أمام الغارات المتواصلة التي تشنّها الطائرات الحربية التابعة لنظام الديكتاتور. وبعد انقضاء سنتين على ثورة أدغال «سيارا»، لم يجد باتيستا وسيلة لحماية نفسه من الانتقام سوى الهرب بطائرته الى إحدى الدول المجاورة.
قبل أن يحقق كاسترو النصر الكامل، ويوحّد أجزاء الجزيرة تحت سلطاته، قرر الاستجابة لدعوة «جمعية تحرير الصحف الأميركية». وكان شقيقه راوول في طليعة المشجّعين على اتخاذ خطوة الانفتاح على الدولة الكبرى التي ساعدته.
في واشنطن، ألقى فيدل كاسترو خطاباً في «نادي الصحافة»، أوضح فيه موقفه من سلفه باتيستا. ثم اجتمع بأعضاء اللجنة الخارجية في الكونغرس. وقبل أن يعود الى هافانا، اجتمع بنائب آيزنهاور ريتشارد نيكسون لمدة ساعتين ونصف الساعة.
وعقب رجوع آيزنهاور من رحلته الخارجية، سأل نائبه عن الانطباع الذي جمعه من لقائه مع كاسترو. وأجاب نيكسون باختصار: «إما أن يكون شيوعياً… أو مخادعاً من الدرجة الأولى».
ويبدو أن كاسترو في بداية حكمه، كان مضطراً الى الظهور بوجهين مختلفين، بحيث لا يعطي الطبقة التي خلقها باتيستا فرصة الانقضاض عليه. لكنه في الوقت ذاته، راح يصدر تشريعات زراعية تعود بالفائدة على طبقة الفلاحين. لكن مساعده تشي غيفارا، لم ينتظر وقتاً طويلاً كي يحسم موقف الثورة. لذلك، ألقى في 17 آذار (مارس) بياناً رسمياً (مانيفستو) حدَّد فيه الأهداف الرسمية للنظام الجديد. وقال في خلاصته: «إذا كنت مضطراً لكسب بعض المكاسب، فإن الحاجة تقضي بأن تستردها من المحتكرين الذين حرموا الطبقة العاملة منها. وكل ما أريد أن أقوله للشعب الكوبي إن معركتنا المقبلة ستكون معركة اقتصادية ضد القوة الكبرى في الشمال».
وهكذا حدّد غيفارا مسار الثورة، ومنهجها الاشتراكي، قبل أن يدعمها نيكيتا خروتشيف، وتصبح كوبا قاعدته المتقدمة التي لا تبعد أكثر من تسعين ميلاً من الولايات المتحدة.
بعد استقالة فيدل كاسترو بسبب المرض، تولى شقيقه راوول المسؤولية. وكان واضحاً منذ استلامه الحكم أن راوول يريد تحديث بلاده بطريقة تتلاءم مع ظروف العصر. لذلك، دعا القيادة المركزية في الحزب الحاكم الى اجتماع طارئ تقرَّر فيه إلغاء نظام الحزب الواحد، والسماح بتعدد الأحزاب. ومن أجل تشجيع المواطنين على اعتماد هذه السياسة، أعلن عن رغبته في التخلّي عن الحكم سنة 2018. هذا كله بهدف إفساح المجال أمام الجيل الجديد كي يتولى المسؤولية التي احتكرتها عائلة كاسترو مدة تزيد عن نصف قرن.
وبين الأسماء البارزة لتولّي هذه المهمة: نائب الرئيس ميغال دياز كانل، ووزير التخطيط والاقتصاد مارينو موريللو، ووزير الخارجية برونو رودريغز.
والثابت، أن الرئيس أوباما لم يقتنع بالخطوات السياسية والاقتصادية التي اتخذها راوول كاسترو. لذلك، استغل زيارته الرسمية الى هافانا ليتحدث، في مؤتمر صحافي مشترك، عن الحريات السياسية. كما تحدث عن الحقوق المدنية، وضرورة إخلاء سراح السجناء السياسيين، أي قادة المعارضة.
يعترف راوول كاسترو بأن الفاتيكان لعب دوراً أساسياً في تقريب وجهات النظر وتخفيف حدة العداء للنظام الكوبي. ففي سنة 1998، عقب تفكيك المنظومة الاشتراكية، زار البابا يوحنا بولس الثاني هافانا، حيث التقى الزعيم فيدل كاسترو، وتباحث معه حول مستقبل الكنيسة الكاثوليكية في الجزيرة. وجاء من بعده البابا فرنسيس ليكمل رسالة الفاتيكان، ويسعى مع أوباما من أجل إنهاء القطيعة بين الولايات المتحدة وكوبا.
ويُستدَل من النشاطات الإيجابية التي قام بها البابا الأرجنتيني فرنسيس، أنه ميّال الى تحقيق المصالحات السياسية والدينية في مختلف أرجاء العالم. ذلك أنه بعد نجاحه في إلغاء القطيعة بين كوبا والولايات المتحدة، قام بخطوة تاريخية في مطار هافانا، عندما التقى كيريل، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية لموسكو وعموم روسيا.
وأثنت المؤسسات الدينية على هذه الخطوة، كونها ألغت ألف سنة من العداء والحروب بين الأرثوذكس الشرقيين وبين الفاتيكان. وقد نال «عرّاب» هذا اللقاء راوول كاسترو، الكثير من المديح، بسبب الدور التوفيقي الذي قام به قبل إعلان وثيقة الخلوة بين الزعيمَيْن الروحيَّيْن. ومن المؤكد أن دور التوفيق والوساطة سيزيد من أهمية الانفتاح الذي يراهن عليه المجتمع الدولي.
وكان من الطبيعي أن تستثمر هيلاري كلينتون التحوّل الجديد لتؤكد أمام الناخبين أنها – في حال نجحت في الانتخابات – ستقوي علاقات بلادها بحكومة الجزيرة. وقالت إن غالبية الكوبيين المهاجرين في فلوريدا تشجّع سياسة الانفتاح.
ومع أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب انتقد بقسوة حجم الصفقة الاقتصادية التي حصل عليها الرئيس أوباما، إلا أنه اعترف بأن نصف قرن من العداء كافٍ لتغيير اتجاه الريح!
لكن المواطن الكوبي الذي يتقاضى 24 دولاراً في الشهر، ينتظر من سياسة الانفتاح أن تبدل في مستوى معيشته بطريقة توفر له بعض المكاسب والامتيازات التي ينعم بها المواطن في الدول المتقدمة. علماً أن النظام الاشتراكي الذي طبّقه كاسترو كان يؤمن الخدمات الصحية والاجتماعية لكل المواطنين.
يقول السفير اللبناني السابق في هافانا جان معكرون، إن الجالية اللبنانية في كوبا ساهمت في صنع تاريخ هذه البلاد، مثلما فعلت الجالية في البرازيل أيضاً. ومع أن غالبية أثريائها اشتغلت مع باتيستا، إلا أن فريقاً كبيراً منها انضم الى حركة كاسترو في الجبال. ولما حقق انتصاره، اختار في الحكومة الأولى لبنانياً كان يرسله الى الخارج للتفاوض. وقد ساعد ذلك الوزير في التخفيف من أعباء المقاطعة التي حاصرته بها الولايات المتحدة فترة طويلة من الزمن. ولما ألقى كاسترو خطابه الشهير في الجمعية العامة سنة 1970، والذي استمر سبع ساعات، كان الوزير اللبناني يفاوض يوسف بيدس (بنك إنترا) في فندق «والدورف أستوريا» في نيويورك.
بقي أن نذكر أن المواطنين الكوبيين ينتظرون من قرار إلغاء المقاطعة مفاجآت مفرحة كالمفاجآت التي انتظرها سكان دول الكتلة الشرقية إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن التغيير المنتظر لا يحصل بالسرعة المتوخاة.
وأول قرار اتخذه الرئيس راوول كاسترو، «تنظيف» شوارع العاصمة من السيارات القديمة المنتشرة بكثرة، والتي تسبّب برفع معدل الوفيات نتيجة حوادث المرور. وليس هذا المَثل سوى عيّنة من القطاعات الأخرى التي يحتاجها 11 مليون نسمة!