IMLebanon

عن «داعش» والأنظمة الراعية والحرب التي تدمر العروبة والإسلام معاً

نجح «داعش» في نشر رائحة الموت في معظم أرجاء العالم، وإن ظل نصيب العرب والمسلمين من الضحايا هو الأعظم ومن التشويه الفظيع لإنسانيتهم هو الأقسى.

اغتال «داعش» الدين الإسلامي بداية، ثم اندفع يغتال العرب. حوّل الدين الحنيف إلى وحش أسطوري يمتهن تدمير الحضارة الإنسانية، وحوّل الإنسان العربي إلى سفاح يحترف القتل الجماعي بغير تمييز بين الرجال والنساء، بين الأطفال والشيوخ، وبين العرب والفرنجة، وبين المسلمين وأتباع الأديان الأخرى. جعل «الإسلام» وحشاً ضارياً يحترف اغتيال الضوء.

استفاد «داعش» من تهالك الأنظمة العربية، من فشلها المريع في حماية أحلام الشعوب التي حكمتها فاستأصلت المبدعين من أهلها، حَمَلة الأفكار المبشرة بغد أفضل، العاملين لإخراج الناس من ليل التخلف والجهل والدكتاتورية. ولقد اخترق «داعش» المجتمعات التي أُفقدت وعيها حين صُيِّر الوعي «جناية» تستحق رمي حَملة راياته المشعة في زنازين تحت الأرض، أو في معتقلات جماعية يسترق المدفونون فيها النظر إلى نتف من الضوء المتسلل خلسة إلى حيث يقبعون في انتظار موت يأتي متباطئاً أو «إفراج» يسمح بإخراج جثث أفكارهم وأحلامهم المتعفنة لدفنها بلا مشيّعين.

قهر «داعش» الوطنية التي استنزفها حكام القهر فانتزعوها من حَمَلة راياتها وصادروا جمهورها باسم «حماية الأمن القومي»، ثم أطلقوا عليها وحوش الطائفية والمذهبية فالتهمت إشعاعها الفكري وحوّلوها إلى أداة تزيين للدكتاتورية.

في البدايات، تولى أهل النظام العربي رعاية هذا الوحش الوافد من الجاهلية واتخذوه حليفاً فأطلقوه على معارضيهم من أهل التقدم والمبشرين بالغد الأفضل، وأداروا حرب إلغاء بين الجاهليين من رافعي الشعار الإسلامي وبين المؤمنين بأن الدين الحق لا ينفصل عن كرامة الإنسان وعن حق الأمة في بناء قوتها بالوحدة.

تربّت جحافل «داعش» في سجون الأنظمة التي مُوّهت دكتاتوريتها بالشعارات المفخّمة. ثم انتبه الجلادون إلى أن هؤلاء هم «حلفاء الضرورة» في مواجهة الوحدويين الأصلاء والوطنيين المخلصين لأفكارهم والمنادين بالحرية كشرط للتقدم والكرامة الإنسانية.

ثم كان أن كبُر «الوحش» فصار ـ في نظر نفسه ـ شريكاً للسلطان. والسلطان لا يقبل الشراكة مع التابع، وكان لا بد من الافتراق. لكن الافتراق مصدر خطر أكيد، فـ «الوحش» يعرف من أسرار السلطان أكثر مما يجب. يعرف نقاط ضعفه التي لا يعرفها الذين في الخارج. يعرف طبيعة ردود فعله على أي حركة في الشارع. يعرف «بيت السر» في علاقاته المخابراتية والتعاون الأمني مع الدول الأخرى، لا سيما تلك القائمة بحماية «الأجهزة»، مثله. يعرف شيئاً عن «صفقات التبادل» التي كثيراً ما استعان بمعلومات «الوحش» في إتمامها.

تحولت العلاقة، ولو لفترة محدودة، إلى «تحالف»: يشتري «السلطان» من «الوحش» معلومات مفيدة عن «خصومه» في الداخل، ويوسع له هامش الحركة لكي يوفر له الوصول إلى خصومه الناشطين في الخارج والقوى التي تدعمهم فتوفر لهم المأوى والدعم ووسائط المواجهة، ولو عن بُعد.

بات «داعش» يعرف أكثر مما يجب عن «النظام»: مفاتيح السلطة فضلاً عن مصدر القرار، شبكة الاتصالات ومجالات الحركة بالحلفاء والمتعاونين والخصوم الذين لا بد من إرجاء الصدام معهم، ولو إلى حين، وكذلك «الأصدقاء» ممن يمكن أن يبيعهم من كيسهم عن خصومهم الفعليين أو المحتملين على قاعدة: اعطني فأعطيك…

ولأن لكل نظام خصومه، محلياً وفي الإقليم، وحتى في العواصم البعيدة، فمن الطبيعي أن يفيد «داعش» من هؤلاء الخصوم، فيبيعهم ما ينقصهم من المعلومات أو يبادلهم ما يمكّنهم من مجال أوسع للحركة.

بل إن «داعش» كان يعمل على الخطين: يبيع النظام بعض ما ينفعه من معلومات عن «الخصوم المشتركين»، ثم يبيع بعض ما يعرفه عن أساليب النظام وتكتيكاته إلى «خصومه»، وهكذا.

ولأن بعض دول العالم، لا سيما الكبرى، هي «المشتري الأول» للمعلومات عن هذا العالم السري للإرهاب، فقد دخلت السوق تبيع وتشتري: تبيع من كيس خصومها، وتشتري معلومات تنقصها عنهم، وهي في الحالتين رابحة. ولا مانع عندها من أن تبيع إلى نظام مخاصم، خصوصاً وأنها تبيعه من كيسه وعمن يعتبرهم «أعداء استقراره»، والسوق مفتوحة فلا تردّ بائعاً أو مشترياً. وهكذا يمكن بيع معلومات منقوصة أو مزورة ولكنها تخدم «الغرض». وفي هذه السوق يتميز «داعش» بأن لديه كنوزاً من المعلومات عن بلاد عدة، تكاد تشمل أقطار الوطن العربي جميعاً ومعها بعض دول الجوار.

هل من الظلم بل من التجنّي أن يُقال إن «داعش» هو الوجه الآخر للعديد من الأنظمة العربية أو أنظمة مشابهة في بعض الدول الإسلامية، فضلاً عن كونه «الحاضنة» لجموع من رعايا دول عربية وإسلامية يعانون من الاضطهاد في بعض الدول الأوروبية، ولا سيما فرنسا التي لجأ إليها ـ قهراً ـ ملايين من المغاربة والجزائريين على امتداد قرن أو يزيد، فعاشوا فيها منبوذين على حافة الجوع، يتكدسون في «معازل» خاصة بهم تطاردهم الشبهة في ولائهم للبلاد التي استعمرتهم لأكثر من قرن ونصف القرن (الجزائر، مثلاً) ثم قبلتهم بالاضطرار ليقوموا بـ «العمل الوسخ» نيابة عن «الرجل الأبيض» ولحسابه؟

إن بعض أبرز القيادات المعروفة لتنظيم «داعش» كانوا من ضباط جيش صدام حسين في العراق، الذين سُرّحوا بغير وجه حق ونبذهم «العهد الجديد» الذي استولده الاحتلال الأميركي للعراق. كذلك فهناك قياديون من متخرجي التنظيمات الإسلامية، و «الإخوان المسلمين» تحديداً، ممن تصادموا مع النظام السوري فاجتهد في استئصال أكثريتهم في حين هرب الناجون إلى تركيا أساساً، حيث احتضنهم نظامها الإخواني فآواهم ونظمهم ورعاهم ثم سلحهم وأطلقهم لينتقموا من النظام في دمشق حين تصادم معه قبل خمس سنوات.

في المقابل، فإن الرياض وعواصم خليجية أخرى قد احتضنت، تاريخياً، عدداً كبيراً من قيادات «الإخوان المسلمين» وتنظيمات إسلامية أخرى، أحياناً بالتفاهم مع النظام في القاهرة وبعنوان حجزهم وتأمينه منهم. فلما وقع الخلاف مع دمشق ثم ـ في ما بعد ـ مع القاهرة التي أسقطت «الإخوان» وانتهجت سياسة مغايرة، أطلقت هذه العواصم «الإخوان» الذين وجدوا في «داعش» حاضنة ممتازة للراغبين في الانتقام، مضيفين خبراتهم ومعارفهم إلى بنك معلومات «داعش» ليستخدمها في خططه ومشروع «خلافته الإسلامية» التي باشر برفع أعلامها السوداء على المناطق العديدة التي اجتاحها فسيطر عليها في سوريا بعنوان «الرقة» ثم بعنوان «الموصل» في العراق التي أعلن منها «الخليفة» أبو بكر البغدادي «دولة الخلافة الإسلامية» العتيدة، ملقياً ظلالاً من الشك على موقف أنقره والحكم الإخواني فيها، بأنها قد أمنت له الطريق الطويل إلى الموصل.

على هذا يمكن الاستنتاج أن «داعش» هو العنوان الصاعق لفشل الأنظمة العربية الدكتاتورية التي رفعت الشعار القومي، مخادعة الجماهير المؤمنة بوحدة الأمة، وهكذا تم اغتيال العروبة بعد تشويهها واعتبارها تغرباً وابتعاداً عن الواقع، وها هو الشعار الإسلامي يسقط ضحية جليلة للإرهاب بعدما استخدمه طويلاً في حربه على الوطنية والعروبة والدين الحنيف معاً.

لقد بات «العرب» بلا هوية محددة. لجأ بعضهم إلى «الكيانية» رفضاً «للقومية»، ولجأ بعض آخر إلى «الإسلام» رفضاً للعروبة، وتنكر بعض ثالث للعروبة والإسلام والوطنية معاً، فباتوا معلقين في فضاء مفتوح بعدما تنصلوا من ركائز وجودهم.

من الطائرة الروسية التي يبدو أنها فُجّرت في سماء الصحراء بسيناء قرب العريش، فذهب ركابها المئتان والعشرون من الرعايا الروس الأبرياء الذين جاءوا للسياحة ضحايا «الإرهاب الإسلامي»، إلى تفجيرَي الضاحية الجنوبية من بيروت (برج البراجنة) وقد حصدا حوالي الخمسين من الضحايا، رجالاً ونساء وشباناً وفتية، فإلى تفجيرات باريس الوحشية التي أودت بحياة مئة وثلاثين ضحية قابلين للزيادة، يتبدى بشكل قاطع أن هذا الإرهاب المتوحش إنما يقتل أول ما يقتل الدين الحنيف، ولا يفرق بين ضحاياه، مسلمين سنة وشيعة ومسيحيين أرثوذكس وكاثوليك وبروتستانت.

كذلك يتبدّى أن الأنظمة العربية القائمة أعجز من أن تواجه هذا الخطر الوجودي.

إنها حرب مفتوحة ستمتد زمناً طويلاً وستكون كلفتها ثقيلة جداً على الشعوب العربية أساساً، وإن هي تمددت إلى بعض أنحاء الغرب وبعض الشرق الإسلامي البعيد.

لقد أكد الإرهاب بالشعار الإسلامي «عالميته»، مجدداً، فهو يضرب في قلب باريس كما ضرب مرات في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وكما ضرب ويضرب في بغداد ومعظم أنحاء العراق ويحتل بعض أرضه كما بعض الأرض السورية وينهب أو يدمر الآثار التي تشهد لحضارة هذه البلاد عبر التاريخ، فضلاً عن ضرباته المتكررة في اليمن والسعودية والكويت وليبيا.

إنه عدو الحياة وأبناء الحياة في كل مكان، سواء كان عند باب مسجد أو في ملعب رياضي أو في منتدى اجتماعي يحتشد فيه محبو الفرح.

والحرب طويلة… ومن أسف أننا لا نملك عدتها المؤهلة لحسمها في المدى المنظور.

ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية