سيرة طراد حمادة تشجّعني على الردّ على مقالته المنشورة في «الأخبار». هذا رجلٌ كرّسَ سنواتٍ طويلة من حياته لخدمة القضيّة الفلسطينيّة وفي نصرة المظلومين، وفي مواقع نضاليّة مختلفة. حمادة شارك في النضال الفلسطيني منذ شبابه، وتعرّض لملاحقة واضطهاد وسجن في عهد أمين الجميّل الظالم. وهو ليس من صنف هؤلاء اللبنانيّين الذين تعلّموا «الرماية» على يد المقاومة الفلسطينيّة ثم «رموها» في أوّل فرصة. حافظَ على عمق التزامه بتحرير فلسطين على رغم الصعاب والعقبات، في بلد مثل لبنان. وعندما تولّى الوزارة، كان مِن أوّل أفعاله رفعُ الظلم والتمييز عن الشعب الفلسطيني العامل في لبنان. وقد تعرّفتُ إليه يومها عندما شكرتُه على إنصافه للشعب الفلسطيني من وزارة تمرّست في اضطهاد الفلسطينيّين والفلسطينيّات والتمييز ضدّهم. يكفي أن تقارن بين سيرة حمادة في وزارة العمل وبين سيرة سجعان قزّي، أو بين سيرة ممانعين تعاقبوا على وزارة العمل في حقبة رفيق الحريري من أجل قمع الحركة العمّاليّة وتمرير سياسات الرأسماليّة المتوّحشة. وتقديراً لسيرة رجل احترمه أرحّب بالحوار معه في موضوع حزب الله والعدل الاجتماعي، خصوصاً أن الموضوع بات ملّحاً في الموسم الانتخابي.
يبدأ الزميل موضوعَه بالاستشهاد بالتراث الشيعي، وما كان يجب أن يستهل ردّه بذلك. لا يجب أن نُقحم موضوع التراث الديني – لأي دين – في موضوع موقف حزب سياسي من العدل الاجتماعي. لا يستطيع حزب الله أن يكتسي شرعيّة أخلاقيّة أو سياسيّة لسياساته المحليّة (الدنيويّة) من عقيدته الدينيّة التي له كلّ الحق بالالتزام الصارم بها. تتضمّن العقائد الدينيّة من القيم والمبادئ التي تتيح للمؤمنين تفسيرها باتجاه محافظ أو تقدّمي أو رجعي متخلّف. أي أن الدين أو الطائفة بحدّ ذاتها لا تكفي لاستقاء مواقف عادلة في الحياة. إن الأحزاب السياسيّة، حتى لو كانت عقائدها دينيّة، ليست معصومة ولا يجب أن تتحمّل الأديان أوزارَ أفعالِ أو أقوالِ المتديّنين فيها. هذه في صلب الحجّة التي نسوقها نحن ضد ظاهرة الإسلاموفوبيا الغربيّة. تستطيع أن تفسّر النصوص المقدّسة بطرق مختلفة. وفي عام ١٩٨٢، عندما تطوّع مؤمنون مهتدون بدينهم – كما تطوّع شيوعيّون وقوميّون سوريّون مهتدون بعقائدهم – لمقاومة إسرائيل عسكريّاً، كانت أعلى سلطة دينيّة شيعيّة رسميّة، أي محمد مهدي شمس الدين، يصرُّ على ضرورة الالتزام بـ«المقاومة المدنيّة» فقط بوجه عدوان واحتلال إسرائيل. أي أن الشيعيّة وحدها، أو السنيّة أو المسيحيّة، لا تحصّنُ بحد ذاتها ضد الجوْر الاجتماعي أو التساهل مع الاحتلال وإلا كانت مجتمعاتنا مليئة بالعدل والإحسان والحريّة. إن الدين يمكن أن يُستخدم من أجل العدل أو من أجل الظلم، كما أن العقائد العلمانيّة يمكن ان تُستخدم من أجل العدل أو الظلم. وأنور السادات حكم واستبدّ باسم «العلم والإيمان»، فكان أن أهان العلم والإيمان معاً. الدين وحده لا يكفي لتحقيق العدل الاجتماعي لأن النصوص الدينيّة لا تحتوي على برامج محدّدة لمواجهة مخطّطات الغرب من خلال «البنك الدولي» أو «صندوق النقد». البرامج المحدّدة تكون مدنيّة أو تكون مواجهة مخططات الغرب الرأسمالي مجرّد شعارات عامّة تُرفَع.
هل يفيد المقاومة أن يعلّق الحزب محاربة الفساد تحت شعار وحدة الصف؟
ويضيف حمادة أن العدل هو هدف من أهداف الإسلام وأن المسلمين يسعون إليه. لكن إذا كان ذلك صحيحاً، فلماذا حُرم المسلمون من العدل في تاريخهم الطويل؟ حتماً، إن الحالة الانسانيّة لا تخضع دوماً لتمنيّات عقائد الدين – على افتراض أن المؤمنين (والمؤمنات، وأن كنّ مغيّبات عن تقرير سياسات الحكم) يتفقون على الأولويّات الأخلاقيّة والترتيب البرامجي لسياسات الحكم. أما قوله إن «العدالة الاجتماعيّة محل اهتمام سياسي في سياسة الأحزاب الإسلاميّة ذات الأصول الشيعيّة»، فهذا لا يتوافق مع المجريات المعاصرة. هناك أحزاب «ذات أصول شيعيّة»، في لبنان أو العراق، توافقت مع سياسات رأسماليّة متوحّشة وتهاونت مع الاحتلال الأجنبي، لا بل تعاونت معه، كما تساهلت مراجع دينيّة عليا مع الاحتلال الأميركي في العراق. أما تجربة حزب الله – الفتيّة بعض الشيء – فهي محلّ نقاش بيننا ونحن نختلف في تقييم التجربة، كما سيأتي أدناه.
أما القول إن الحزب لا يمكن له أن يفصل بين المقاومة وبين العدل الاجتماعي، فهذا كان مفاد تمنّي مقالتي. لكن مسار تجربة حزب الله لا تتفق مع هذا التقييم. إن الجوْر الاجتماعي والتفاوت في الدخل والجشع الرأسمالي زاد عبر السنوات التي كان الحزب ممثّلاً فيها في الحكم. أما حجّة أن الحزب لم يتمثّل إلا أخيراً أو أنه تمثّل بداية بوزير واحد، ثم بوزيريْن فقط، فهذا لا يُقنع. إن التمثيل في الحكم، ولو بوزير واحد – ولو بحقيبة هامشيّة – تعني تحمّل كل مسؤوليات سياسات وممارسات الحكومة من دون استثناء – وإلا فإن الاستقالة هي الردّ على ما يوافق وزير أو حزب عليه. لا يمكن التمثّل بالحكم والتخفّي بعدم الموافقة الصامت أو الهامس، أو بالتحفّظ على قضايا عادت على شعبنا بالوَبال. إما المشاركة في الحكم بما تتضمّن من تحمّل أوزار الحكم، أو المعارضة من الخارج والدعوة لسياسات بديلة. إن الحزب كان ممثّلاً في المجلس النيابي في سنوات الحريريّة، وهو لم يكن يعطي الثقة بحكومات الحريري لكنّ الحزب الذي يستطيع أن يعارض بقوّة لا مثيل لها – كما حدث في ٧ أيّار ضد مؤامرة من حكومة السنيورة – لم يعارض بقوّة السياسات الحريريّة التي أوصلت لبنان إلى الدرك الذي وصل إليه. إن تسامح حزب الله مع السياسات الحريريّة الكوارثيّة (الاقتصاديّة حتى لا نتحدّث عن مؤامراته ضد المقاومة في سياساته الخارجيّة، والتي بتنا نعرف عنها الكثير الكثير)، ينبع من فصل الحزب (حتى الساعة، أو حتى إعلان حسن نصرالله الأخير بتشكيل لجنة ضد الفساد) بين المقاومة وبين الاقتصاد، والذي لزّمه قانعاً إلى رفيق الحريري على أن يكفّ شرّه عن المقاومة. فكانت النتيجة أن الحريري تآمر ضد المقاومة في السرّ، وتآمر ضد الطبقات الفقيرة والمتوسّطة في العلن وفي وضح النهار.
أما القول إن إنجازات حزب الله من خلال مشاركته في البرلمان باتت «محلّ تقدير وإعجاب لمكاسبه العديدة» فهذا يحتاج لنقاش. إن هذا الحوار بيننا، أي بين كاتبيْن متمسكيْن بخط المقاومة لحماية لبنان من عدوان واحتلال إسرائيل، دليل على أن الإعجاب بتجربة الحزب في المشاركة البرلمانيّة ليست محلّ إجماع. على العكس، إن النقاش الحالي واهتمام الحزب الخاص بالمنافسة الانتخابيّة في منطقة بعلبك الهرمل – والتي تعرفها أنتَ جيدّاً – دليل على أن تجربة الحزب في البرلمان لم تعدْ تكفي، مع رصيد الحزب في المقاومة – لتحقيق نتيجة فوز ساحق للحزب، كما كانت الحال في الماضي (هذا من دون التقليل من حجم المؤامرة الخارجيّة ضد الحزب من لدن أطراف لبنانيّة وعربيّة وغربيّة).
صحيح أن الحزب لم يترك المقاومة ليدخل البرلمان، وأن مشاركته في البرلمان لم تكن على حساب المقاومة. في هذه نتفق. إن الحزب أثبت في الصمود والاستبسال التاريخي في حرب تمّوز أنه لم يَدعْ مشاركته في البرلمان والحكومة تشكّل عائقاً أمامه في المقاومة. لكن، ألم يفتحْ الفساد في لبنان، والذي هو نتيجة تاريخ من النظام الطائفي المناقض للعمل الديموقراطي (النظري) ونتيجة أيضاً لسياسات حريريّة عمّقت من الفساد في الجسم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الأبوابَ مشرّعة أمام تسرّب مخطّطات أعداء المقاومة؟ إن الفساد في الدولة، مثلاً، يُسهّل عمليّة تجنيد عملاء للعدوّ الإسرائيلي. والحزب تساهلَ كثيراً مع فساد الدولة حتى لا نتحدّث عن الفساد في المجتمع. والحالات (القليلة) من نجاح العدوّ أو أميركا في التجنيد في داخل الحزب هو تعبير عن فسادٍ ما نخرَ في داخل الحزب، وإن أصاب أفراداً قلّة فيه فقط. إن الفساد ووفرة المال وتدفّق التمويل الخليجي (للسيطرة على مقدّرات منظمّة التحرير الفلسطينيّة لمنع النشاط الفلسطيني في دول الخليج، ولإفساد مقصود للثورة الفلسطينيّة) هو الذي سهّلَ وزخّمَ الاختراق الإسرائيلي والغربي، والذي قضى على فعاليّة المقاومة الفلسطينيّة، ووأدها في ما بعد.
أما القول إن وجود الحزب في البرلمان دعمَ وجود المقاومة فلا أرى ذلك. إن المقاومة كانت محميّة قبل دخولها إلى البرلمان، ويمكن القول إن الدخول إلى البرلمان أدخل الحزب في شبكة حسابات ومعايير مساومة وتوافق أضرَّ بأولويّة المقاومة، وحوّلها إلى موضوع سجالي قابل للأخذ والردّ على طاولة «حوار»، مع أمثال أمين الجميّل وسمير جعجع وغيرهم من رموز المرحلة الإسرائيليّة. كما أن المشاركة في «الحوار» والوزارة والبرلمان لم تمنعْ كل المؤامرات التي حيكت ضد الحزب وسلاحه على مرّ الأعوام. وكان حزب الله مشاركاً في حكومات كانت تُموّل – من جيب الشعب اللبناني – محكمةً إسرائيليّة الصنع والإخراج والتلحين والمرمى، ومن أجل استهداف حزب الله. وحزب الله منعَ مؤامرة ٥ أيّار ليس بالنقاش الحكومي أو البرلماني وإنما بالقوّة المسلّحة التي وحدها تحمي سلاح المقاومة. وكل التوافقات على سلاح المقاومة، في الحكومات المتعاقبة من خلال صياغات وتوليفات، باءت بالفشل، وتحوّل شعار «شعب وجيش ومقاومة» إلى مادة لتمييع دور المقاومة وأصبح الجميع مشاركاً في مقاومة لم تقمْ بها إلا أقليّة ضئيلة من الشعب ومن التيّارات السياسيّة.
أما المشاركة «بفعاليّة»، كما يصفها الزميل العزيز، في لجان وأعمال المجلس النيابي فهذه تحتاج لتقييم منفصل عن تقييم المقاومة. هذه تتعلّق بنقاشنا عن العدل الاجتماعي لا عن نقاشنا عن المقاومة. ثم لنعترف أن النظام اللبناني هزيلٌ في ديموقراطيّته الطائفيّة، وأن التشريع لا ينبثق عن المجلس بقدر ما أن المجلس يتلقّى أوامر الموافقة والتصويت من العدد القليل من الزعماء الذين يسيّرون الحياة السياسيّة في لبنان، وبالتوافق مع إرادات خارجيّة (غالبها غربي المنشأ). والإشارة إلى عمل كتلة «الوفاء والمقاومة» في المجلس يطرح مرّة أخرى أسئلة حول دور الحزب في التصدّي لمسائل العدل الاجتماعي من خلال العمل التشريعي. هل يستطيع الحزب أن يشير إلى مشاريع قوانين قدّمها من أجل تحسين المستوى المعيشي للفقراء والمحتاجين وللتصدّي لمشاريع «البنك الدولي» و«صندوق النقد» اللذين يزيدان من القهر الطبقي؟ هل تصدّى الحزب للخصخصة الزاحفة، أم أنه شارك فيها (من خلال مشروع محمد فنيش للكهرباء، والذي نال إعجاب الفريق الحريري)؟ وهل حاول الحزب أن يضع خطّة ضد جشع واحتكار المصارف – وهذه المصارف باتت هي نفسها الأداة الأميركيّة الضاربة ضد حزب الله وفي قلب لبنان؟
يقول الزميل إن مشاركة الحزب لم تؤدِّ إلى إحداث شرخ أو انقسام في صفوف جمهور المقاومة. لكن هذا الافتراض تناقضه الوقائع. لقد فرضت مشاركة الحزب في الانتخابات النيابيّة مساومات وألاعيب تدخل في صلب الحياة السياسيّة اللبنانيّة، مثل التحالف مع أضداد (التحالف الرباعي، مثلاً)، مما أزعج كثيرين في صفوف مؤيّدي الحزب. وتحالف الحزب الضمني مع إيلي حبيقة، مثلاً، لا يزال يثير الامتعاض في صفوف أنصار المقاومة في لبنان، كما أن اللبنانيّة التي كانت تعدّ لأرييل شارون أطباقه كانت من ضمن التحالف الذي ضمّ الحزب ذات يوم. والحزب تحالف في هذه الانتخابات مع رفيق سلاح لبشير الجميّل.
ويدلّل حمادة على تأسيس كتلة ٨ آذار ثم الثنائيّة الشيعيّة ويضعها تحت عنوان «بناء الدولة». لا أدري أي دولة تلك التي يحاول الحزب أو غيره أن يبنيها. إن شعار بناء الدولة (وهذا الشعار يتفق عليه يساريّون مثل شربل نحّاس ويمينيّون مثل حزب الكتائب، وما بينهم) يثير القلق، خصوصاً أن لا اتفاق يجمع حول مفهوم الدولة. هناك – مثل السنيورة وصحبه – مَن يفهم الدولة على أنها نموذج لدولة شارل حلو الضعيفة والتي كانت تعتمد على سوء نيّة دول الغرب لحماية لبنان. إن شعار بناء الدولة لا يستقيم من دون اعتناق سياسة مقاومة رسميّة من قبل الدولة المزمعة، لأن الاحتلال والعدوان الإسرائيلي يشكّل أكبر خطر ليس فقط على سيادة لبنان وإنما على وجوده بحد ذاته. قد نطالب ببناء الدولة ذات يوم – لكن بعد إسقاط النظام الحالي برمّته.
والثنائيّة الشيعيّة تطرح تساؤلات مشروعة عن الخيارات السياسيّة لحزب الله. هل يصحّ ما قاله جبران باسيل من أن الحزب علّق معارضته للفساد بسبب سياساته الاستراتيجيّة حول الصراع مع العدوّ؟ وهل يفيد المقاومة أن يعلّق الحزب محاربة الفساد تحت شعار وحدة الصف (الطائفي أو السياسي)؟ وهل أن الثنائيّة الشيعيّة عزّزت من «العمليّة الديموقراطيّة» التي يتحدّث عنها الزميل؟ أم أن الثنائيّة تأسّست على مبدأ «غضّ النظر» عن الفساد في الدولة للحفاظ على وحدة الصف الشيعي؟
وقانون الانتخابات الجديد لا يجب أن يُعتبر انجازاً من إنجازات العمل البرلماني للحزب. لنتفق أن المناقشات حوله جرت – كما كل المناقشات حول الأمور المصيريّة في البلد – خارج قاعة المجلس وبين عدد محدود من الزعماء. والقانون يجمع بين النسبيّة وبين النظام الأكثري الطائفي. والنظام النسبي يفترض تأسيس وتعزيز الحياة الحزبيّة التي يحتاجها لبنان لاستبدال نظام نفوذ الطوائف. لكن ربط النظام النسبي بالصوت التفضيلي الضيّق، وحصر النظام النسبي في نطاق يقارب ما هو أضيق من المحافظة يناقض هدف النظام النسبي. إن أوّل مَن طرح النظام النسبي كان مشروع الحركة الوطنيّة اللبنانيّة الإصلاحي لكنه جعله على مستوى لبنان كدائرة انتخابيّة واحدة. وهذا هو الهدف من تعزيز الولاء الأوسع من المختارة أو غيرها من عواصم الطوائف. يُسجّل لمصلحة الحزب أنه دفع باتجاه النظام النسبي مع علمه أن ذلك يمكن أن يُخسَّره بعضاً من مقاعده، وهذا ما لم يفعله أي من الأحزاب الأخرى، لكن المشروع النهائي خضع للمساومات والتنازلات التي نألفها في النظام اللبناني.
ويذكَّر الزميل حمادة أن الحزب عرض التحالف مع الحزب الشيوعي اللبناني لكن الأخير رفض التحالف. وهذا صحيح. بدا الحزب الشيوعي اللبناني مرتبكاً في العلاقة مع حزب الله في هذه الانتخابات. وقد انشقّ قيادي شيوعي عن الحزب في الجنوب ليلتحق بقائمة الحريريّة، مما يطرح أسئلة مشروعة عن التثقيف الحزبي للشيوعيّين. والحزب الشيوعي بات أكثر تقبّلاً للتحالف مع «القوّات اللبنانيّة» (التي دخلَ معها في مفاوضات للتحالف في بعض الدوائر، على ما قرأنا) لكنه رفض رفضاً باتاً فكرة التحالف مع الحزب. لكن هل أن حزب الله في تاريخه أخطأ في تاريخ عمله البرلماني في تحالفاته؟ هل أخطأ الحزب في تعويله لسنوات طويلة على حزب وليد جنبلاط، مع إهماله لفصائل يساريّة مقاومة، مثل الحزب الشيوعي وغيره؟ هل استفاق الحزب متأخراً على وطنيّة اليسار المقاوِم، مع علمنا بقصور في اليسار اللبناني الإصلاحي، ومع التمييز بين يسار مقاوِم وبين يسار حريري وحتى رجعي يتحالف مع الكتائب و«القوّات» في الشمال وغيرها؟ الحزب تأخرَ أو أهملَ بناء جبهة مقاومة عريضة كان الحزب يحتاجها في الماضي، وهو اليوم يحتاجها أكثر من أي يوم مضى بسبب الهجمة الطائفيّة للنظام الخليجي المتحالف مع العدوّ الإسرائيلي. لم تكفِ «سرايا المقاومة»، أو أنها بالأحرى لم تفِ بالغرض. الحزب، لأنه نشأ سريّاً – والنشأة السريّة كانت من فضائل فعاليّته في المقاومة خلافاً لتجربة الانفلاش القاتل الذي شاب تجربة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة – لم يألفْ العمل الجبهوي. وتجربة ٨ آذار باءت بالفشل الذريع كما نشهد في مطالعة القوائم الانتخابيّة.
تأخرَ الحزب أو أهملَ بناء جبهة مقاومة عريضة كان يحتاجها في الماضي
وأنا لا أشكّ بجديّة عمل حمادة وزيراً لإحقاق الكثير من الأمور، لكنه يتفق معي أن السياسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي سادت في حكومتيْ السنيورة التي شاركَ فيها تثبت بالقاطع أن جدوى المشاركة فيهما كان محدوداً جداً. لا يُحكم لبنان ديموقراطيّاً ولا إجماع بين أحزابه وتنظيماته وتيّاراته حول الأمور الوطنيّة والحياتيّة، وعليه فإن التعويل على إمكانيّة التغيير من داخل الحكومة في ظل النظام السياسي القائم وفي ظل السطوة الكبيرة للتحالف الخليجي – الإسرائيلي – الغربي على لبنان يعكس درجة من حسن النيّة غير المبرّرة. وإذا كانت الحكومات تتآمر ضد المقاومة عندما يكون الحزب مُشاركاً فيها، فتصوّر لو أن الحزب يضع مصير المقاومة بحد ذاته في يد المساومة «الديموقراطيّة» للنظام السياسي اللبناني. ولو أن الحزب وقف مبكراً ضد الحريريّة السياسيّة وسياسات النهب والإفقار لكانَ دور الدول والشركات الغربيّة في لبنان أضعف بكثير، ولكان دور المصارف اللبنانيّة في الاقتصاد اللبناني (والتآمر الأميركي المباشر) أصغر بكثير.
إن العمل على اعتناق سياسات العدل الاجتماعي هو جانب من جوانب حماية المقاومة لأن الأعداء يتسرّبون من ثغرات النقمة الشعبيّة ضد الوضع الاقتصادي وفشل التمثيل النيابي في إحداث تغييرات جذريّة في حياة الناس في البقاع والجنوب.
لقد أدرك الحزب – وإن متأخراً – مصلحته الحيويّة في محاربة الفساد وفي معارضة مؤسّسات التسليف الغربيّة. ولقد تحدّث حسن نصرالله أخيراً – وإن متأخراً – عن قرار الحزب بمحاربة الفساد، لكن القرار هذا يحتاج إلى برمجة محدّدة ومفصّلة كي يستطيع المواطن (والمواطنة) الحكم على مسارها. إن تشكيل لجنة من دون تحديد آليّة ومعيار تقييم وإعلان أسماء يذكّر بلجان كثيرة قامت وزالت في رحم الدولة اللبنانيّة. يحتاج الحزب إلى برنامج تفصيلي حول العدالة الاجتماعيّة.
نحن نتفق أن الحزب يتعرّض لحملة عنيفة من خصومه الخارجيّين (وبأدوات داخليّة يشارك فيها ذلك الذي استماتَ الحزب لفكِّ أسره في الرياض). ونتفق أن الحكومة الأميركيّة مُشاركة كعادتها وبقوّة في هذه الانتخابات وعلى مستوى كل لبنان. كلّ مَن يُقلّل من التدخّل والاهتمام الأميركي في الانتخابات – وفي كل حي وناحية ودسكرة – يجهل تاريخ التدخّل الأميركي في شؤون بلادنا منذ الحرب العالميّة الثانية. إن التدخّل الأميركي في شؤون عالمنا العربي أعمق وأبعد من تدخّل فرنسا وبريطانيا في شؤوننا في سنوات استعمارهم لنا. لا يترك الأميركيّون ناحية من الحياة في منأى عن تدخّلهم المباشر. وهذه الانتخابات هي جولة من جولات حرب المعسكر الأميركي – الإسرائيلي ضد خصوم الصهيونيّة. لكن الحزب سهّل ويُسهِّل مهمة أعدائه بإهماله لمحاربة الرأسماليّة في لبنان. الرأسماليّة لا تتوافق مع المقاومة: تعلّمنا ذلك من تجربة المقاومة الفلسطينيّة حيث سيطر الرأسمال الخليجي (والفلسطيني التابع) على مقدّرات منظمّة التحرير وقادها نحو «أوسلو». نَجِّنا من «أوسلو» لبنانيّة.