Site icon IMLebanon

عن كلام كيري بين مؤتمري «فيينا 1» و «فيينا 2»

في كلمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمام مؤسسة كارنيغي للسلام، في احتفال الأخيرة بإطلاق برنامجها الذي يحمل عنوان «آفاق العالم العربي»، عدد من النقاط التي يقتضي التوقف ملياً عندها، وحتى التساؤل في شأنها، في ظل ما تشهده المنطقة حالياً، وما يصفه سياسيون ومحللون ومراقبون كثر، بمن فيهم الولايات المتحدة نفسها، بأنه «لا سياسة»، وحتى «لا استراتيجية»، أميركية محددة تجاهها. في كلمة كيري ما بين اجتماعي «فيينا 1» و «فيينا 2» حول سورية، والتي تشي لغتها ومفرداتها بأنها ارتجالية، أي لا ترقى إلى وثيقة رسمية ملزمة، كلام أكثر دقة وتحديداً من أي كلام أميركي سابق، ليس في ما يتعلق بسورية فقط بل أيضاً في ما يتصل بالاتفاق النووي بين واشنطن وطهران وماهية العلاقات بينهما في هذه الفترة، فضلاً عن نظرة واشنطن إلى المنطقة عموماً: إلى من تعتبرهم أصدقاءها وحلفاءها التاريخيين، ثم إلى دور روسيا في سورية تحديداً، بعد تدخلها العسكري بدعوى محاربة الإرهاب والمساعدة في إنهاء الحرب.

ماذا في كلمة كيري مما يستدعي الاهتمام، وربما التساؤل الآن وفي المستقبل خصوصاً، في ما لو بدا مجدداً أن الكلام السياسي شيء والفعل على أرض الواقع شيء آخر؟!

عن الاتفاق النووي، قال كيري: «كما تذكرون، كان هناك في أثناء المفاوضات من يتحدثون عن اتفاق ذي معنى بالنسبة للعلاقات بين واشنطن وطهران. هل يمكن لاختراق في الشأن النووي أن يفتح الباب لتعاون أوسع؟ البعض رحب باحتمال كهذا، فيما شعر البعض الآخر، لنقل الحقيقة، بأنه سيصدم بإزائه. وهنا، أريد أن أكون واضحاً. لقد عنينا تماماً ما قلناه: الصفقة مع إيران تعني بنودها. نووية فقط، ولا شيء سوى بنود نووية. وهو الأمر الصحيح الذي فعلناه، سواء أدى إلى حقول تعاون أخرى أو لم يؤد. والآن، ليست لدينا أوهام حول السياسات المقبلة لإيران، لأن مقاربتنا لها تتم وفق الوقائع المرئية، وما نراه بوضوح أن إيران تواصل اللعب بالخلافات الطائفية في المنطقة، كما تواصل احتجاز مدنيين أميركيين من دون مبرر(…) وسياسات إيران هذه، أحد الأسباب التي تجعلنا نعمل عن قرب وبدعم متبادل مع شركائنا في المنطقة».

هذا المقطع من الكلمة التي غلب عليها عنوان «البناؤون والهدامون» في المنطقة، يتناقض إلى حد كبير مع مقطع آخر عن التزام بلاده مبدأ الوقوف بقوة ضد «الهدامين» والانتصار لـ «البنائين»، فضلاً عن تعهدها منع تهديد الاستقرار في المنطقة، لأن تجربة 11 أيلول (سبتمبر) «علمتنا أن الأخطار الإقليمية سريعاً ما تصبح أخطاراً دولية… ولأننا نعي تماماً أن الأحداث في الشرق الأوسط يمكن أن تؤثر على كل قارة على حدة، لأن لدى الناس في كل قارة ارتباطاً بالتقاليد الروحية والأخلاقية التي تعود بجذورها إلى تلك الأرض القديمة في التاريخ». ولا حاجة للقول إن اللعب على الخلافات الطائفية، ووصف سياسات إيران، لا يضعانها في قائمة «الهدامين» فقط، إنما أيضاً في خانة العداء الدائم والمطلق لكل ما يسعى إليه أو يفكر فيه «البناؤون» هؤلاء.

لكن، ماذا عن الوضع الضاغط حالياً في سورية؟

عن هذه النقطة، قال: «من أجل هزيمة «داعش»، علينا أن ننهي الحرب في سورية. وهذا عملياً هدف أميركا». لكنه لم يقف عند هذا الحد، فأضاف: «للتفكير في ذلك، ينبغي التفكير في كيف بدأ النزاع. مطلع 2011، مع بداية الربيع العربي، قامت انتفاضة شعبية ضد بشار الأسد، الذي حكم هو ووالده لأكثر من أربعة عقود. أرسل الأسد شبيحته (thugs) لضرب الشبان الذين كانوا يحتجون في الشوارع وهم يطالبون بفرصة عمل ويتطلعون إلى المستقبل. هذا كل ما أرادوه، إلا أن الشبيحة تعاملوا معهم بالضرب. وعندما غضب أولياؤهم على خلفية ذلك وخرجوا، جوبهوا بالرصاص والقنابل. هكذا بدأ كل شيء. وبدلاً من التغيير السلمي، عمد الأسد إلى جعل الحرب حتمية وطلب مساعدة «حزب الله» وإيران وروسيا. وهذا ما فاقم التوتر بين الجماعات السنية والشيعية، ومهد تالياً الطريق لبروز «داعش» (…) جميعكم تعرفون الآن الأرقام: مواطن سوري من كل عشرين قتل أو جرح. واحد بين كل خمسة نازح. واحد من اثنين مهجر. معدل الأعمار في سورية انخفض بنسبة 20 سنة».

لكن كيف، وماذا تفعل الإدارة الأميركية لإنهاء الحرب، إن عبر اجتماعات فيينا أو على الأرض؟

يقول كيري: «علينا أن نطرد «داعش» الذي سيطر لفترة على معظم الحدود التركية/ السورية، لكن في النهاية لا شيء يساعد على ذلك سوى مرحلة انتقالية تزيح الأسد وتفسح في المجال لتوحيد البلاد في مواجهة التطرف. لذلك، علينا إزالة «النظرية» التي شجعها الأسد و «داعش» معاً منذ البداية، وهي أن لا خيار لدى السوريين إلّاهما: تكون مع الإرهابيين أو مع الأسد. لا، ليس هذا هو الخيار. هذه «النظرية» هي التي تجعل من يخشى الإرهابيين يقف مع الديكتاتور، ومن يخشى الديكتاتور يقف مع الإرهابيين، وهي بالتالي ما حول سورية في النهاية إلى جهنم».

النقطتان اللتان خلص إليهما في ختام كلمته، واللتان قد تعنيان الكثير إذا ما كانتا تعبران فعلاً عن استراتيجية أميركية ثابتة للمستقبل، هما:

أولاً، لأولئك المتشائمين الذين يقولون إن الديموقراطية ليست ممكنة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، أجيبهم بكلمة واحدة: تونس. هنا، لا نجد الجنة الآن، لكننا نجد بالتأكيد ماذا يعني أن يكون هناك «بناؤون» في الشرق الأوسط.

ثانياً: لا تقبلوا وجهة نظر البعض الذين يقولون إن الشرق الأوسط يجب في النهاية أن يقسم على أساس خطوط طائفية، خصوصاً بين السنة والشيعة. لا شيء يغذي بروباغندا «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية أكثر من هذه الخرافة… هذه النظرة التبسيطية والسينيكية، ليست غير حقيقية وغير واقعية تاريخياً فقط، بل غير حقيقية وغير واقعية اليوم أيضاً. يبقى السؤال: هذا ما قاله كيري قبل أيام، وبين «فيينا 1» و «فيينا 2» مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وآخرين، لكن ما الذي يفعله كيري، ورئيسه أوباما، عملياً على الأرض لتجسيد كل، أو حتى بعض، ما قاله؟