IMLebanon

عن واقعية سياسية لبنانية

ترتسم توازنات المشهد السوري في شكلٍ متوالٍ، وتبدو معالم خريطة النفوذ الخارجي في سورية واضحة أكثر من ذي قبل، وعلامة الاستفهام الكبرى حول مصير الوضع السوري تجزَّأت إلى علامات استفهام صغرى عدة، إذ بات الجواب على كل علامة من هذه العلامات عبارة عن خطوة إلى الأمام نحو الجواب الشامل عن سورية «الجديدة»، هذه التي لا يرجح، وفقاً للمعطيات المتاحة، أن تعيد إنتاج النسخة السورية القديمة. بكلمات: ربما صار واقعياً القول، إن ما تبقى من صراع في سورية يدور اليوم حول الخواتيم التي يرجوها كل طرف لهذا الصراع.

بالتوازي، لم تأخذ الكلمات السياسية اللبنانية المتداولة طريقها صوب الوقائع الواقعية التي صارت ملازمة للوضع السوري، بل إن التمحور حول النبرة ذاتها والصيغ الكلامية والسياسية ذاتها، ما زال يتصدر مطالع الخطب، وما زال الاستقطاب ممسكاً بمتن وأفكار ما يطرح من مطوّلات سياسية. لوهلة ما، يظهر وكأن لبنان السياسي لا يواكب الخارج العربي والدولي، بل يتخلف عن التقاط إشاراته، ولا يحسن القراءة في كتاب أعماله ولا في كتاب أفعاله. التأخر السياسي اللبناني هذا، يعاكس ما كانت عليه الحال في أيام سياسية غابرة، ففي الماضي السياسي القريب سبق السياسيون اللبنانيون المتدخلين الخارجيين طرحاً وممارسة، هذا لأنهم كانوا يدلون برغباتهم المحلية، وبرؤيتهم الخاصة لما يجب أن يكون عليه توازن النظام اللبناني. كان اللبنانيون في حقبات معلومة، خارجيين أكثر من الخارج، لأنهم كانوا على درجات من الخصوصيات الفئوية الضيقة. ما الذي تغيَّر اليوم؟ ولماذا تبدو السياسة اللبنانية أوسع ثباتاً فوق مساحة كلامها؟ ربما لأن المساحات التي كانت متاحة للمناورة في الماضي، تقلصت حتى لامست الإمحاء، وربما لأن الحرية التي كانت متاحة للفرقاء المتخاصمين، للعب في الوقت الضائع، باتت ملغية، لأن اللاعبين الكبار انصرفوا إلى ملء الملاعب السياسية بكل الكرات المناسبة.

لكن واقع الحال السياسي هذا، إذ بات حضور العامل الخارجي في لبنان طاغياً، لا يلغي المسؤوليات الجديدة الملقاة على عاتق السياسة اللبنانية، بل يعزز الدعوة إلى ابتكار واقعية داخلية، متصلة بما كان للبنانيين من «واقعيات» سياسية ابتكروها قبيل نيل استقلالهم الوطني، وبعد نيل هذا الاستقلال، وعلى امتداد السيرة الاستقلالية، الصعبة والمتعثرة.

الواقعية اللبنانية، إذا كان ثمة من هم معنيون بهذه الواقعية، تُبنى على ما استجدَّ من وقائع في الملف السياسي العربي، وعلى الجديد المؤكد الذي صار ملموساً في السياسات الدولية والإقليمية. أساس البناء الجديد يقوم على القراءة المتأنية الجديدة، أو المتجددة لا فرق، ويقوم أيضاً على تصور الأهداف اللبنانية الوطنية العامة، التي يتطلع إليها القرَّاء، ذلك أن لا قراءة محايدة، بل إن كل تأويل وكل تفسير يجب أن يكون منحازاً وطنياً، أي يسعى إلى تحقيق مصلحة عليا عامة للمجموع الوطني، هذا الذي يقيم ضمن كيان جغرافي ما زال غير مستقر كيانياً. المهمة صعبة ومعقدة، ومصدر ذلك صعوبة «التشكيلة» الداخلية، التي ما زال تبلور ثباتها يتوالى تباعاً، إذ مما هو معروف أن الحركية «المصلحية» والاجتماعية والذاتية، ما زالت عناوين مفتوحة لزمن التطور الاجتماعي الداخلي، أي أن عدم الاستقرار «الكينوني» ما زال ملازماً لكل الكيانات الأهلية اللبنانية، والحال، أنه يتعذر بناء الثابت على المتحرك، لذلك يظل البناء من الحركة، أي التقدم نحو المعالجة الوطنية من حالة الحراك، هو الأقرب إلى العمل السياسي الواقعي في الظرف اللبناني الحالي، مثلما كان الأقرب إلى العقلانية، في الظروف اللبنانية المنصرمة.

من ضمن الوقائع التي يجب التوقف أمامها واقعياً، أن الانحيازات السياسية الداخلية في لبنان تشارف على ملامسة خلاصاتها، أي نتائجها العربية والإقليمية والدولية، والمطروح الواقعي: ماذا سيفعل اللبنانيون بهذه الخلاصات؟ وكيف سيتفاعلون معها؟ وماذا سيرتبون عليها من مسالك وتسويات سياسية؟ من غير الواقعي الآن، مطالبة الفرقاء اللبنانيين بوضع حد فوري لانحيازاتهم، خاصة أن هذه الأخيرة باتت نوعاً من الارتباط الوثيق بمحاور السياسة الخارجية، وقد تبدو كلمة الارتباط وصفاً تخفيفياً لوصف التبعية، لكنها تظل الأقرب إلى الواقع السياسي، لأنها تحفظ للبنان الداخلي شيئاً من داخليته، وتعترف واقعياً، بواقع المصالح الخاصة بكل طرف منحاز، هذا لأن «الوطنية» اللبنانية، غير المتبلورة تبلوراً نهائياً، هي معطى موجود ولو على التباس وضعف وتشكيك، ولأن المجموعات اللبنانية ليست مجرد «فصائل» ملحقة بهذا البلد الخارجي أو ذاك، أي أن اللبنانيين ليسوا مجموعات وجاليات خارجية مقيمة في لبنان. إدراك هذا الأمر بعمق، تصرف واقعي يمكن السياسي الواقعي من التمييز بين حدود الداخل وحدود الخارج، على رغم الاختلال الواضح اليوم بين طرفي المعادلة، ولهذا فإن أقصر الطرق إلى التحليق فوق الوطنية، هو إلغاء المعطيات الداخلية، وجعل كل السياق اللبناني سياقاً خارجياً.

بالتأكيد، الملفات اللبنانية الداخلية كثيرة، وهي على ما سبق القول شائكة وخطيرة، ومن عوائق مقاربة الملفات، أو مما يزيد من صعوبة تناولها، كون المتصدين لها يتحدرون من «ثقافات» غير تسووية، وفق ما هو معلوم من أحوال الصيغة اللبنانية. لكن، ومرَّة أخرى، تفرض الواقعية القول إن اللبنانيين مضطرون لمواجهة قضاياهم الجديدة، بجهود هذه التشكيلة السياسية التي أنجبتها سنوات الصراع، داخل لبنان في الماضي، وحول لبنان في الأيام الحالية.

وربما كان جديراً بالانتباه أن مقولة أن هذا الطرف اللبناني لا يريد «الدولة»، ليست صحيحة تماماً، ومثل ذلك حصر مطلب قيام الدولة بطرف لبناني آخر، فهذا ليس دقيقاً تماماً أيضاً، لذلك فإن الأقرب إلى الواقع القول إن كل طرف يريد «الدولة»، لكنه يريدها على قياسه!! من جديد، الواقعية تقتضي العمل لكي يكون للبنانيين دولة تتسع لكل «المقاسات»، وهذا يتطلب لغة جديدة غير متمحورة وغير ثابتة وغير جامدة، بل لغة تحسن القص والتفصيل والخياطة، أي نسج تسوية صعبة، من القماش الواقعي الذي بات في حوزة اللبنانيين. القماش غير المستعار وغير المتخيل… والذي ليس من مادة الوهم أيضاً!