ما الذي سنفعله غداً؟
كأننا أحياء بالصدفة. قادمون من حروب متصلة. ماضون إلى حروب متوقعة. الأمل، توقف عن الإقامة عندنا. الأفق، بقعة عمياء. الغد، أمس أسود يتمدَّد، فما الذي سنفعله غداً؟
لا لغة تعبِّر عن معاناة القتل والفتك. شيء من الجنون ينتشر. الأسماء حاضرة في الذاكرة. من قبلُ، كان هتلر. من قبل، كان موسوليني. من قبل كانت القنبلة الذرية وسقوط هيروشيما وناكازاكي في الرماد ونهاية كل شيء. لا إنسان ولا حجر. ستون مليوناً من القتلى. عدَّاد الموت أحصى دولاً وشعوباً وعالماً. كان الجنون خوذة الرؤوس. هذا ما تم فعله بالأمس، فما الذي سنفعله غداً؟
ليس سراً أن الجنون سياسة. الجنون المؤقت سياسة عابرة. لجوء الدول إلى التهديد بالعنف الأقصى، يهدف إلى عقلنة العدو وإخافته. التلويح بالحرب، دعوة جدية للجلوس إلى طاولة التفاوض. الجنون سياسة لفرض التعقل. حدث ذلك مراراً. كان هذا في بعض الماضي. في حاضرنا رحم يُنجب جنوناً برتبة قادة ورؤساء وحكام وأمراء ورجال دين. نحن نعيش في «مملكة مجانين» عن حق. واللائحة تطول.
دونالد ترامب مرشح رسمي من قبل حزبه «الجمهوري» لرئاسة الدولة العظمى بلا منازع. هذه الدولة ارتكبت من الجرائم بقيادة عقلائها: العراق نموذجاً. هوى البلد برمته. دب فيه جنون الثأر والقتل والتفجير. الجنون مُعدٍ ومرغوب. الجنون يلغي ما كان ممنوعاً. يُرتكب الممنوع… وأميركا، ليست دولة لذاتها. هي دولة عالمية. تتحمّل رأسماليتها الجشعة مسؤولية حماية الأسواق وانتقال السلع والإمساك بمفاصل الدول، وحراسة «عالمها» براً وبحراً وجواً، وهلم جراً من الارتكابات… آخرها، تأهيل دونالد ترامب لممارسة الجنون. فما الذي سنفعله غداً؟
ليبرمان وزيراً للحرب في إسرائيل. هذا مجنون بلا حدود. طالب ذات لحظة من نوبات الصَرَع العنصري، أن تستعمل إسرائيل سلاحها النووي وأن تقصف سد أسوان في مصر. شارون يبدو تلميذاً أمام ليبرمان.
«المجتمع الإسرائيلي» مستسلم ليمين متطرف، لا يمين بعده. مؤمن بأن نتنياهو معتدل وعلى حق. أنهى «بيبي» حل الدولتين. دولة واحدة لا غير، لشعب واحد من دون أغيار. دولة يهودية لليهود. «إسرائيل» من النهر إلى البحر. تؤيده واقعة ازدياد نسبة المستوطنين في «الضفة». زيادة تمنحه «شرعية» التشبّث بالأرض المغتصبة… فليختر الفلسطيني أرضاً غير فلسطين. بعد هذا، ما الذي سيفعله الفلسطيني غداً؟ ألَهُ غدٌ بعد؟
«جنون العظمة» بلغ الذروة. أردوغان ينافس خلفاء العثمانيين وكمال أتاتورك، «أنا تركيا»، أو «أنا.. ولا أحد». أقصى رفاق دربه. القمة لا تحتمل سواه. ديكتاتور منتخب. «فوهرر» إسلامي. يتشبه بمن سبقه من عرب الجنون. عدد كاف من الأنظمة أبَّدت حكامها. كان لدينا فائض من المجانين. إرثهم يشهد عليهم. هذه هي حرائقهم، وهذه هي «نكبتنا الكبرى» في بداياتها، بعد إعدام «الربيع العربي»، وهذه هي دماؤنا.
مَسّ عنصري مجنون أصاب أوروبا. يمين متطرف يتقدم بثبات من السلطة. يمين يتسلَّق على أعناق الغرباء البؤساء. عجز أصاب الثقافة في أوروبا: «الإسلاموفوبيا» من نتاج اليمين و «تسامح» اليسار. العنصر الأبيض رفع فزاعة اللاجئين وشمَّاعة الإسلام. نسبة اليمين المتطرف تتقدّم في دول ذات سمعة «إنسانية معقولة»: النروج، السويد، النمسا، فرنسا وفي دول ذات تاريخ ماركسي ـ لينيني اشتراكي بائد: بولنده، المجر ودول «حلف وارسو» سابقاً. يمين متطرف بشعارات يسارية شعبوية ونقاء قوموي عنصري، يهدِّد منظومة الاتحاد الأوروبي. فماذا ستفعل أوروبا غداً؟ ما حصتنا من هذه التعبئة العدائية ضد العربي والمسلم والغرباء؟ أي نحن؟
جنون حربجي يمسّ السعودية. ولي ولي العهد، صورة أخرى للمملكة. حركة تصحيحية لأمير دفن مساراً سياسياً شاخ. انتهى زمن ادعاء «التعقل» واصطناع «الحكمة». «السيف أصدقُ إنباءً»… مع ولي الولي، السياسة فعل لا قول: حرب مجنونة على اليمن. لا براءة لمجانين اليمن الذين دمّروا بلدهم، ومن الطرفين الجنون اليمني، سابق على جنون المملكة. كان واضحاً أن الجميع في الداخل، ذاهب إلى الانتحار. جنون شعبوي، قبلي، مذهبي ادعائي. الانتصار كان مستحيلاً. المؤكد كان هو الدمار. والتقى الجنونان: الجنون اليمني وجنون المملكة.
الجنون أفضى إلى استنفار مذهبي، إلى عسكرة الديبلوماسية، إلى خندقة القضايا. قالت السعودية، بلسان ولي الولي: «الأمر لي». أمَرَ الجامعة العربية فامتثلت وأطاعت، واستسلم «المؤتمر الإسلامي». قالت ما يقول «الولي»: العدو هو إيران. «حزب الله» إرهابي. الحرب مشروعة. أمر مجلس الأمن فأطاع. أوروبا رقصت رقصة السيف مع الأمير. تعيش المملكة راهناً، حرباً عالمية على إيران في اليمن وسوريا والعراق ولبنان… هو جنون بأثمان باهظة ونتائج كارثية. لا أحد يربح في هذه الحروب. الخاسرون كثر، أولهم المملكة. رصيد «إسرائيل» من حروب المنطقة، حجيج عربي إلى «تل أبيب».
من قبل، كانت مصر قد ودَّعت ميدانها المليوني. عصاب عسكري أصاب البلد. الحاكم ينتمي إلى العسكر. الشعب انحاز إلى الصمت والقهر. يرى أن «ثورته» «أرخت سدولها». لا حكم الدين يناسبه، وحكم العسكر يأنفه. مسٌّ عصابي أصاب البلد. الحاكم بأمره يسير وحده، محاطاً بشرطة الأمن وشرطة الإعلام وشرطة القضاء. كأن مصر فرغت من روحها. كأنها غرقت في صبر النيل. فماذا بقي للمصري كي يفعل شيئاً؟
غير مسبوق جنون الانفجار الديني والتشظي المذهبي. المشرق على المذبح، ويذبح كل يوم. مدنه، بلدانه، قراه، عواصمه، مؤسساته ماضية إلى المسلخ. لم نعرف جنوناً كـ «داعش» و «النصرة» والشقيقات الشقيَّات. بعد ثلاثة أعوام من اجتياحات الجنون، وجنون الثورة ومجانين الأنظمة، نسأل: ماذا تبقى لنا للغد؟ العراق ثلاثي، سوريا بلا شكل نهائي. صارت ماضياً فقط. لا مستقبل لسوريا، بل لمجانينها.
تباً لعصر يحكمه هذا الجنون.
تباً لعالم يعاني صرع السلطة والتعصب والجشع والسفك.
ولا ينجو لبنان من الجنون. مجانينه مزمنون. فضيلتهم أنهم عاجزون. يعوِّضون عن الأفعال بالأقوال. ولو ان أقوالهم أفعال، لكان لبنان «عصفورية».
في مكان ما من هذا العالم، حكماء. في مكان ما من بلادنا حكماء. في مكان ما من لبنان حكماء… حتى تأتي ساعتهم؟ لقد تأخروا كثيراً. لا نملك غير الانتظار.