يشهد اللبنانيون في يومياتهم حالات من التناقض عرفوها في عقود سابقة بما في ذلك في مرحلة الحرب، لكنها تتكرر اليوم وعلى نحو أوضح لترسّخ صورة عن مزاج لبناني فريد من نوعه وقادر على امتصاص أزمات لا تقوى دول كبرى على مواجهتها.
ويمكن على امتداد كل عام التوقف أمام مجموعة من هذه اللوحات حيث يواجه اللبنانيون أزمات لا تحصى ولا تعد، سياسية وأمنية وبيئية واقتصادية ومعيشية، ورغم ذلك كله فهم ينكبّون على متابعة حياتهم اليومية بصورة طبيعية، بما في ذلك تمضية اجازاتهم السنوية داخل لبنان أو خارجه، أو المشاركة في المهرجانات الفنية في كامل الأراضي اللبنانية، متجاوزين الاعتبارات السياسية واجواء الانقسام الحادّة.
فمن صور إلى بعلبك إلى جونيه وجبيل والبترون مروراً ببيروت وعكار وتنورين وبيت الدين وزغرتا يتسابق اللبنانيون على حضور المهرجانات السياحية، حتى إذا أقيم مهرجان في منطقة محسوبة على فريق سياسي لا يتردد أقطاب من فريق سياسي خصم في المشاركة فيه. ولعل أصدق تعبير عن هذه الصورة مشاركة كل من الرئيسين أمين الجميل وفؤاد السنيورة في مهرجانات بعلبك قبل أسبوعين (كركلا) رغم وجود القلعة في عرين «حزب الله»، حيث لم يتردد الاول في إلقاء كلمة على الخشبة قال فيها إن المقاومة ليست سلاحاً وحسب وانما ثمة «مقاومة في الموسيقى والفنون». فيما أعلنت ليلى الصلح في حفل الافتتاح ان «هذه هي صورة بعلبك الحقيقية ولا يمكن لبعض الزعران تخريب هذه الصورة».
إذاً في مقابل مهرجانات النكد السياسي التي يتواصل عرضها أمام اللبنانيين، وآخرها «ثلاثية الحوار» وجلسة مجلس الوزراء اللتين شهدتا سجالات لمّا تنتهِ بعد، ثمة مساحة فرح يتمسك بها اللبنانيون متحدّين كل ممارسات التعطيل وإطالة أمد الشغور الرئاسي والشلل المتفاقم في مجلسي النواب والوزراء.
ذلك أن هذه المساحة هي جزء من الثقافة اللبنانية التي بقي اللبنانيون متمسكين بها من جهة، والتي لم يستطع «حزب الله» من جهة ثانية «تعطيلها» كما فعل في حقول أخرى، لان ثقافة الحياة ثقافة متجذّرة في مزاج اللبنانيين منذ الاستقلال الاول، وهي استعادت حيويتها مع الاستقلال الثاني، بوصفها عينة من «المناعة» اللبنانية في وجه الاخطار والانقسامات والازمات.
ولأن هذه الثقافة جزء من تكوين المزاج اللبناني المتراكم على مدى عقود، لم يتمكن لا «حزب الله» ولا كل الظروف المحيطة بلبنان من حرف مسارها أو تشويهها أو اجراء اي تعديل فيها كما جرى في العراق مثلاً أو في اليمن حيث تمكّنت الثقافة الميليشيوية المستجدة والوافدة إليها من تحريف الثقافات الأم، بما في ذلك اللغة الأم حيث يؤكد قادمون من بغداد مثلاً ان اللغة الفارسية اصبحت تُستخدم في بعض الدوائر الرسمية.
معنى ذلك ان الثقافة اللبنانية عصية على أي تطويع أو أي محاولة لحرفها عن مسارها، تماماً كما هو حال القطاع المصرفي، مثلاً، الذي واجه احتلالات ووصايات وميليشيات وأزمات وحروبا منذ الاستقلال حتى اليوم ولم يقوَ أحد على تطويعه أو إضعافه أو حتى تشويه صورته، كما حصل مؤخراًثر صدور قانون العقوبات الاميركية ضد «حزب الله».