والبداية، تكرار السؤال عند الكثيرين عن ماهية «الترفيق»، قبل اهتمامهم بتفاصيل ما رشح منذ أيام عن خلافات بين مراكز السلطة السورية حول إزالة أحد حواجز «الترفيق» في مدينة السويداء، يحدوها مطالبة رئيس الحكومة بالتبليغ عن كل من يمارس «الترفيق» لاتخاذ الإجراءات اللازمة بحقه!.
«الترفيق» ظاهرة تنامت في البلاد جراء اتساع الانفلات الأمني، وتعني دفع مبالغ مالية كبيرة، كأتاوى لميليشيات تابعة للنظام، تقوم «بمرافقة» شاحنات نقل المواد والبضائع من منطقة إلى أخرى، بهدف حمايتها من التفتيش أو التوقيف أو السرقة، وتزداد هذه الإتاوات طرداً مع ازدياد أثمان البضائع، وتبعاً لأخطار الطريق ولقوة المركز الأمني أو العسكري الذي يوفر الحماية.
وإذ بالغ بعض الموالين في دفاعهم عن «الترفيق» كرافد يمد ميليشيات النظام بالأموال لضمان استمرار رواتبهم وإعالة أسر شهدائهم ومعوقيهم، رفض آخرون الظاهرة بشدة، وحملوها مسؤولية تسهيل مد جماعات المعارضة بالسلاح، وتمكين المطلوبين من الفرار، والأخطر، تسهيل مرور سيارات مفخخة يتم تفجيرها في مناطقهم، طاعنين بصدقية دورها، وبأن ما تجمعه من مبالغ لا يذهب للمحتاجين بل لزعماء الميليشيات وقادتهم الأمنيين والعسكريين.
وعلى رغم الرفض الرسمي لـ «الترفيق» لا يزال غالبية التجار والصناعيين والمزارعين يلجئون إليه، ما داموا لا يطمئنون لقدرة السلطة على حماية بضائعهم، ويستطيعون، عبر رفع الأسعار، استرداد ما يدفعونه من جيوب الناس، حتى وإن أفضى ذلك لمزيد من إذلالهم وابتزازهم، وتكاثر الطفيليات التي تمتص دم نشاطهم الاقتصادي الهزيل أساساً، ما سمح بمأسسة هذه الظاهرة، ضمن شركات مرخصة، أوضحها شركة «الدرع» للحراسات الأمنية، المرتبطة بأحد مراكز قوى النظام، والتي تقدم خدمات مأجورة لحماية ونقل الأموال وحراسة المنشآت والممتلكات والوثائق والأفراد.
هل سمعتم بالتعفيش؟! هي ظاهرة تصف حالة سلب ونهب ممتلكات البشر، تمارسها قوات النظام، بصورة عشوائية وانتقامية، في مناطق تتم السيطرة عليها أو تهجير أهلها بفعل الحصار… ظاهرة غدت اليوم سلوكاً ممنهجاً تشترك في رسمه رؤوس أمنية كبيرة، وتتوازعه عبر جماعات متخصصة، إن لسرقة الأدوات الكهربائية، وإن الأدوات الصحية، وإن الأثاث الخشبي، وتفرعت منها ظاهرة «التنحيس» المعنية بسحب الأشرطة الكهربائية من الجدران وبيعها كأسلاك نحاسية، ثم «التضمين» وهي عروض لتسليم منطقة سكنية تمت السيطرة عليها حديثاً، لمن يدفع أكثر، لقاء تسهيل تعفيشها وإخراج الغنائم والمسروقات منها.
وللغنائم كما يحلو للموالين تسميتها، أسواق خاصة تباع فيها مختلف المسروقات بأسعار متهاودة، وعلى عينك يا تاجر، مستغلة وطأة حاجة الناس إليها في ظل التدهور المريع لقدرتهم الشرائية، ولعل أكثر المناطق التي تعرضت للتعفيش هي أرياف دمشق مثل داريا والمليحة، ومدينتا حمص وحلب، وقد اضطرت قيادة العمليات الروسية، بعد سقوط حلب، لنشر شرطتها العسكرية كي تحد من الانفلات المريع لعمليات النهب والسلب.
أما ظاهرة التدعيش، فقد ارتبطت بتنظيم داعش، للدلالة على ما يمارسه التنظيم بعد سيطرته على إحدى المناطق، فإلى جانب التنكيل بأهلها، يصادر كل ما يعتقده بدعة، بما في ذلك تدمير الآثار التي تعود إلى أزمان غابرة، عداكم عن تخريب المدارس وحرق المكتبات وتحطيم مختلف وسائل الإعلام كأجهزة التلفزيون والراديو وغيرها.
ويبقى الأسوأ والأوسع، ظاهرة التشبيح، والتي باتت لها صور وأشكال متنوعة، يوحدها الاستهتار بحيوات الناس وأمنهم، وتوسل السلاح والعنف والإرهاب، لابتزازهم وانتهاك أبسط حقوقهم وإجبارهم على الانصياع لأوامر الشبيحة ورغباتهم.
في سورية اليوم، بات الشبيحة أعلى من الدولة والقانون، غالبيتهم موزعون على حواجز تنتشر بالمئات في شوارع المدن ومداخلها، حواجز غدت بالتهديد والابتزاز، مصدر رزق وفير لهم ولقادة الأجهزة الأمنية المرتبطين بها، حتى بات بعض الحواجز يسمى بمقدار المبالغ المالية التي يجمعها يومياً، مثلاً حاجز المليونين عند بوابة «سوق الهال» في العاصمة دمشق وحاجز المليون عند مدخلها الجنوبي، وهناك حواجز بين المحافظات يسدد لها كل مسافر آلاف الليرات ثمن العبور، وتزداد القيمة إن كان المسافر ينتمي لإحدى البلدات أو المدن المتمردة، أو قارب سن التجنيد.
يستبيح الشبيحة كل شيء من دون أية مسائلة، يفرضون الإتاوات، يعتدون على أصحاب المطاعم والمحال التجارية، يفرضون عليهم تسعيرتهم الخاصة ثمناً لما يريدون، بعضهم يدير عشرات البسطات المتنقلة بجانب الأسواق، ويبيع المساعدات الأممية المخصصة للنازحين بعد مصادرتها، وآخرون يذلون مئات المحتشدين عند الأفران والمجمعات الاستهلاكية وطوابير توزيع مازوت التدفئة والبنزين، فارضين رغباتهم على حساب فرص الناس وحاجاتهم، والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يحتج أو يبدي إشارة امتعاض.
ولا ننسى هنا، التشبيح الإعلامي والتعليمي، فالأول يمتطي وسائل الإعلام لكيل ما يحلو له من الشتائم وعبارات التهديد والوعيد ضد الآخر المختلف متلذذاً في المطالبة بسحقه وتدمير المدن الثائرة على من فيها، والثاني لا تعني له مؤسسات التعليم شيئاً، يستعرض قوته مثلاً، لدخول مراكز الامتحانات وإيصال الإجابات الصحيحة لمن يريد تحت عيون المراقبين الخائفين على أرواحهم ومناصبهم.
ظاهرياً، يبدو أن هؤلاء الشبيحة يتحركون بلا توجيه أو تنظيم، لكن الحقيقة أن ثمة أجهزة أمنية وعسكرية، ترعاهم وتضبط دورهم وتسخرهم لجني الأموال ولمزيد من إرهاب الناس وتطويعهم، بدليل ما رشح من تغطية هذه الأجهزة لعمليات تفكيك مصانع ومنشآت، ولسرقة سيارات لا تعد ولا تحصى، ناهيكم عن إدارتها لعمليات اختطاف ممنهجة لأطفال أو فتيات بعض العائلات الميسورة، وتغييبهم أو الإفراج عنهم لقاء فدية مالية كبيرة.
وبين مرارة حياة تشح فيها أبسط المستلزمات من خبز وماء وكهرباء وصحة وتعليم، وبين ظواهر مؤلمة كرستها لغة القوة وفوضى العنف والسلاح، يثار السؤال، أين غدت الدولة السورية اليوم، وهل لا يزال الممانعون يصدقون أنفسهم وأحاديثهم عن صمود مؤسسات الدولة واستمرار دورها العمومي في وجه ما يعتقدونه مؤامرة كونية ضدها؟!.