ليس مستغرباً ما طلبته سورية من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإن كان غريباً جداً ما أرادته من ورائه. ليس مستغرباً، لأن النظام فيها لعب اللعبة نفسها قبل حوالى عامين في ما يتعلق بأسلحته الكيماوية، ويبدو أنه يظن أن بإمكانه تكرار الشيء ذاته الآن. وغريب، لأن هذا النظام نفى دائماً أن يكون لديه برنامج نووي من جهة أولى، ولأنه يفترض أنه يستطيع أن يفعل بنفسه ما يطلبه من الوكالة من دون الرجوع إليها من جهة ثانية.
ماذا طلب نظام بشار الأسد من الوكالة الدولية للطاقة الذرية وكشف عنه قبل أيام فقط؟
قال الأمين العام لوكالة الطاقة الذرية يوكيا أمانو، قبل أسبوع، أنه يدرس طلباً من سورية لمساعدتها على تحويل مفاعل نووي تملكه قرب دمشق، من مفاعل يستخدم وقوداً بدرجة تخصيـب عـاليـة إلى آخر لوقود بدرجة تخصيب أقل، يصبح معها صعباً استغلاله في تصنيع قنابل ذرية. وفي المعلومات التي كشف عنها أوباما، أن المفاعل السوري هذا يعمل الآن بيورانيوم عالي التخصيب، وأن ما تطلبه سورية هو تخفيض نسبة التخصيب هذه، ونقل ما لديها من وقود مخزون إلى ما قال أنه «بلد المنشأ» في الخارج.
وفي هذه المعلومات أيضاً، أن الوكالة تسعى منذ سنوات لزيارة موقع في الصحراء السورية تقول تقارير استخبارية أميركية أن فيه مفاعلاً بنته كوريا الشمالية لإنتاج البلوتونيوم، وأنه لم يسمح بعد بزيارة هذا الموقع الذي كانت الطائرات الإسرائيلية أغارت عليه قبل أعوام، ولا بزيارة موقع آخر في منطقة دير الزور.
لكن ماذا يعني الطلب السوري الجديد من نوعه؟
ليس خافياً أن نظام الأسد يعترف بكلامه هذا، ولأول مرة، بأنه يملك برنامجاً لإنتاج أسلحة نووية، وبأن المفاعل المشار إليه مؤهل لهذا الغرض. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يطلب تخفيض نسبة التخصيب فيه، وكذلك نقل مخزونه من الوقود المخصب إلى خارج سورية، في الوقت الذي تتفاوض فيه الوكالة والدول الست الكبرى في العالم مع إيران حول نقطتين مشابهتين، فضلاً عن المراقبة والتفتيش الدوليين للمنشآت المماثلة.
ويطرح هذا التشابه سؤالين محددين: أولهما، هل يريد النظام السوري أن يدخل في مفاوضات مع الوكالة، إذاً مع الدول الـ6 ذاتها، لانتزاع اعتراف هذين الطرفين، وتالياً التعامل معه كدولة، في الوقت الذي ينظر فيه كلاهما إليه من زاوية أنه نظام يقتل شعبه منذ أكثر من أربع سنوات وأنه لم يعد يسيطر سوى على أقل من 20 في المئة من أراضي بلده؟ وثانيهما، هل يلمح إلى أن برنامـجـه جـزء من الملف الإيراني، وحتى من عملية التخصيب ذاتها (عبارة «بلد المنشأ» الغامضة تنفع كدليل)، بعد أن تكاثرت الأنباء عن تلكؤ إيران في تقديم العون العسكري له في المدة الأخيرة من ناحية، وعن إمكان عـقـدها صفـقـة في سيـاق «الاتفاق/ الإطار» مع الغرب تكون على حـسـابـه من ناحية ثانية؟
وفي سياقهما، هل يستهدف نظام الأسد بذلك عرقلة الاتفاق بين إيران والدول الـ6، أو أقله توسيع إطاره ليشمل البرنامج السوري باعتباره جزءاً من الملف الإيراني، أم أن المسألة كلها ليست سوى لعب في الوقت الضائع؟
يصعب الجواب عن السؤالين، أو على أي منهما، لا سيما أن للنظام مع وكالة الطاقة هذه سجلاً حافلاً من الكذب والتهرب والمراوغة، وأن الوكالة لم تتخذ بعد قرارها بشأن الطلب، كما لم يتأكد بدوره مدى صدق النظام في الكلام على المفاعل في دمشق.
لكن طلب النظام هذا، في أي حال، يفتح الباب أمام عدد من المفارقات في طرائق تعاطيه الداخلي والخارجي طيلة الأعوام الـ45 الماضية، مع المجتمع الدولي ومع وكالة الطاقة، كما مع الثورة ضده ومع الشعب السوري كله في خلال الأعوام الأربعة الماضية: تحريف وابتزاز في جانب، وعرض وطلب في جانب، وبيع وشراء على الدوام («الزعبرة» بكل معانيها)، ولم يعدل مرة واحدة في شكلها أو في مضمونها.
ولا يختلف طلبه من وكالة الطاقة عما سبق من «زعبرة» كما يأتي:
أولاً، هو يحاول تكرار لعبة كسب الوقت، كما كانت حاله مع قضية الأسلحة الكيماوية بعد تهديد الرئيس الأميركي باراك أوباما بقصفها وقصف دمشق، الأمر الذي وفر له فسحة زمنية لحصر مواقع هذه الأسلحة من جهة، ثم لإخراجها بحراً من سورية من جهة ثانية، ثم للإعلان أن بعضها لم يكن النظام قد صرح عنه في حينه (لكسب الوقت أيضاً!) من جهة ثالثة.
وبينما تتقلص رقعة الأرض التي يسيطر عليها النظام، ويبدأ البحث عن بديل له حتى بين حليفيه الروسي والإيراني بعد أن باتت سورية مقسمة واقعياً، فإن ورقة الوقت هذه تصبح من أوراقه التي ربما لا يجد بديلاً عنها الآن.
ثانياً، هو يحاول لفت نظر العالم إلى دمشق بالذات، لكن ليس باعتبارها العاصمة ومعقل النظام، إنما لأنها تضم هذا المفاعل النووي المتقدم، في ظل الحديث عن احتمال سقوطها في أية لحظة، وتالياً سيطرة التنظيمات التي تقاتله عليها وعلى المفاعل وما يحتويه من وقود وإمكانات تصنيع.
وفي ظن النظام أن من شأن ذلك أن يساعده، دولياً هذه المرة، لإبقاء دمشق وريفها بعيدين عن خطر اجتياح التنظيمات لهما، أو أقله لتأخير هذا الاجتياح إلى حين معالجة الوكالة ودول العالم لقضية المفاعل في المنطقة.
ثالثاً، وعلى عادته منذ بدء الثورة، هو يحاول زيادة مخاوف دول العالم من هذه التنظيمات وإمكان وصولها إلى موقع المفاعل النووي وما فيه من مواد يمكن تحويلها إلى قنابل نووية، كما ورد في كتابه إلى الوكالة، ووضع هذه الدول مجدداً أمام خيار من اثنين طالما تحدث وحلفاؤه عنهما: إما نظام الأسد أو هذه التنظيمات.
والحال أنه لا مبالغة في ما يبتغيه النظام لهذه الناحية، فقد ولد وشب وشاب على هذا الصنف من «الزعبرة» السياسية:
يدعي أنه «علماني» مع أنه طائفي ومذهبي وحتى عائلي ووراثي بما لا ينافسه فيه أي نظام عربي آخر. ويزعم أنه «وحدوي» بينما هو لم يضرب وحدة العرب (سورية والعراق مثلاً) بل ضرب حتى وحدة سورية نفسها أرضاً وشعباً وتاريخاً. أما أنه «اشتراكي» كما ينص ميثاق حزبه، فحدث ولا حرج، ويقول أنه «مقاوم وممانع» فيما لا يفتأ يقدم في كل مناسبة أوراق اعتماده لواشنطن حامية إسرائيل، وحتى لإسرائيل مباشرة كما فعل أحد أقطابه مخلوف غداة بدء الثورة ضده في آذار (مارس) 2011.
… ولا حاجة للقول، بعد هذا التاريخ الطويل لنظام آل الأسد، أن رسالته إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا يمكن أن تشذ عن هذا الأسلوب.