تحوَّل مجلس أحد السياسيّين البارزين إلى مسرحيّة هزليّة، بطلُها القانون الانتخابي الجاري التنقيب عنه في دهاليز السياسة اللبنانية ومغاورها، التي يبدو أنّها عميقة إلى حدّ أنّ أياً من المحاولات الجارية لسبرِ أغوارها لم تستطع النفاذ إلى أعماقها وانتشال الكنز المفقود.
كثرة المشاريع الانتخابية وزحمة الأفكار والصيَغ والتقسيمات التي تطرَح من هذا الجانب أو ذاك، حرّكت روح النكتة لدى هذا السياسي، فقدّم على طريقته، خلاصةً تنطوي على كثير من الإبر والدبابيس. يقول فيها: «كأنّنا أمام مطعم وجبات سريعة غير مطابقة للمواصفات الصحّية والبيئة… وبالتأكيد السياسية».
أكثر من ذلك، يذهب هذا السياسي بامتعاضه من المنحى الذي بلغه الملف الانتخابي، الى السخرية القاسية من مسار النقاشات والتقسيمات وعمليات الفرز والضمّ التي تُخلَط فيها دوائر هنا بدوائر هناك، ومقعد هنا بمقعد هناك.
فيقول: «من خلال متابعتي لهذا المسار ظننتُ نفسي أمام «محمصة» تقدّم تارةً «مخلوطة نصّ بزورات ونصّ مكسّرات».. وتارةً ثانية «مخلوطة ثلثين بثلث» وتارةً ثالثة «مخلوطة ثلاثة أرباع بربع» وتارةً رابعة «خلطات عجيبة غريبة».
وأكثر المساخر فيها أنّه بدل أن يدير هذه المحمصة «محمصاني»، يديرها «حلّاق» يحمل في يده مقصّاً أعمى، يجزّ فيه يميناً شمالاً، طلوعاً، ونزولاً، حتى هو نفسُه لا يعرف ماذا يفعل».
يتوقف السياسي المذكور لبرهة، يأخذ نفَساً من «سيجار» أشعَله، ثمّ يتابع: «بالتأكيد لن نسلّم رقبتَنا لهذا الحلّاق، وأنا على يقين من أنّ «هيك محمصة ما بتكمِّل.. لأنها في نهاية المطاف ستفلِس وتقفِل، لا أقول فقط إنها عاجزة وغير قادرة، بل هي ببساطةٍ كلّية تبيع بضاعةً فاسدة، ولا تملك أن تعدّ «الخَلطة السرّية» بمذاق طيّب ليس مرّاً أو مزّاً أو شديد الملوحة كالذي تعمل عليه».
بهذه الصورة الكاريكاتورية يقارب السياسي المذكور ما آلَ إليه النقاش في الصيغ الانتخابية وتقسيماتها «المفصّلة على مقاسات بعض القوى و«الثنائيات» الحديثة العهد».
قبل أن يدخل في الجدّ ويقول: «المشهد واضح أمامي، يفتعلون الجدّية والحرص على إنتاج قانون انتخابي سليم لا يأتي على حساب أحد، ويراعي كلَّ المكوّنات، وينطوي على معايير العدالة والمساواة… كلام جميل. لكنْ عندما يأتون إلى التطبيق، تجدهم يلحسون ويبلعون كلَّ شعاراتهم، ويُظهرون «فجَعهم» وسلوكَهم الإلغائي والإقصائي للجميع من دون استثناء، وتوجّهَهم نحو بناء الأرضية التي تُمكّنهم، من خلال الانتخابات وفق قانون مفصّل على مقاسهم، من ابتلاع كلّ شيء والتفرّد والحكم بأمر البلاد والعباد».
يضيف: «قلنا لهم يا جماعة إلى أين أنتم ذاهبون؟ فصاروا يَنفخون صدورَهم ويجيبوننا من فوق.. قلنا يا جماعة «على مهلكم شوَي».. فظلوا يمضون كفِيلٍ أعمى في كوريدور مفروش بالزجاج… وهات يا تكسير. كأنّ كلّ الآخرين أشباح غير مرئيين بالنسبة إليهم… وأمّا المقصّ فحنون فقط على «حليفهم المفدّى»، الذي يحترف وظيفة النفخ في آذانهم ويصادر شعارات الآخرين ويزايد عليهم».
ويتابع: «إرتفع شعار اعتماد النسبية في بلد قد لا يكون مهيَّأً لها، البعض وجَدها فرصةً لكسر المعادلات الداخلية وذهبَ إلى المدى الأبعد في الحديث عن الأعداد والأرقام. أقرّ الكبار بأنّ النسبية الشاملة غير ممكنة ولا بدّ مِن تشريبها للواقع اللبناني على جرعات، هنا تعدَّدت صيغُ المختلط، وفي بعضها محاولة لأخذ هواجس وليد جنبلاط في الاعتبار. فقوبِلت بصيغٍ تنسف ما قبلها..».
ويمضي السياسي المذكور في سرده قائلاً: «رفع جنبلاط صوته وقال انتبهوا ولا تنسوا أنّ الطائفة الدرزية واحدة من المكوّنات الأساسية في لبنان فلا تجازفوا بأيّ صيغة انتخابية تنال منها أو تُشتمّ منها رائحة إقصاء أو إلغاء أو تحجيم لها، فسَمع جنبلاط ما يطيّب خاطرَه، لكنّه لم يَطمئن، بل ظلّ مسكوناً بالقلق لأنّ مقصّ الحلّاق ظلّ شغّالاً في كلّ الاتجاهات!
لقد كان جنبلاط، والكلام للسياسي نفسِه، محقّاً في عدم مغادرته منطقة القلق، إذ تبيّنَ أنّ المقصّ، في التقسيمات التي جزّها وفقاً لبعض الصيغ الانتخابية، وآخرُها ما تمّ تفصيله في جولته الأخيرة قبل أيام، أنّه بعين واحدة، أخذ من الكلّ ما لا يريدون أن يعطوه أصلاً، وأزاح من الطريق قوى وأحزاباً وشخصيات وزعامات تاريخية وعائلات أساسية، وراعى فقط حامل المقص، و«الحلفاء الجُدد» إلى حدّ أنه أعطى بعض «الثنائيات» المستجدّة (لم يسَمِّ القوات والتيار الوطني الحر) هبةً نيابيّة تزيد عن 46 نائباً بما يفوق ثلثَ المجلس النيابي (43 نائبا) يعني منحها «الثلث المعطل» في البرلمان، وقدرةَ التحكّم بالقضايا والأمور الكبرى، وحقّ «الفيتو» في الاستحقاقات الكبرى، وأوّلها وأهمّها الانتخابات الرئاسية المقبلة.
يعني أنّ أيّ مرشّح رئاسي يجب أن يكون من هذه «الثنائية»، أو محكوماً لها، وأيّ مرشّح لا ترضى عنه لا يمكن أن توفّر له نصابَ انعقاد الجلسة الانتخابية المحدَّد بثلثي أعضاء المجلس (86 نائبا) لأنّ مفتاح إتمام النصاب أو عدمه في يدها وحدَها لامتلاكها أكثرَ من ثلث اعضاء المجلس النيابي!
يقول السياسي إنّه توقّف عند ردود الفعل لدى القوى الأساسية : «لن أتناول ما قاله الرئيس ميشال عون حول المرسوم وعدم التوقيع وما إلى ذلك، فهذا من اختصاص أهل الدستور والقانون. لكن توقّفتُ مليّاً عند موقف «حزب الله»، يبدو أنّ المقصّ استفزّه فرفعَ صوته اعتراضاً، والشيخ نعيم قاسم رفضَ تفصيلَ القوانين على قياس الزعامات، واقترَح العودة إلى مشروع نجيب ميقاتي.
وأمّا الرئيس نبيه بري، يضيف السياسي المذكور، فحيَّره الذي يجري؛ نِسَب تُرفَع في دائرة، ونسَب تُخفَّض في دائرة مماثلة ولكنْ من لون آخر. أكثريّ هنا من لون طائفي معيّن.. نسبيّ هناك من لون طائفيّ آخر.. أكثري ونسبي في دوائر لا يزيد عدد المقاعد فيها عن 2 أو 3 مقاعد…
وهكذا وجَدها خلطةً عجيبة يَحكمها معيار الاستنساب وتفتقد إلى معايير العدالة والمساواة. ولذلك سأل عن وليد جنبلاط هل أخَذ أحد رأيه؟ كذلك قال هناك أيضاً أطراف سياسيون آخرون، حزبيون ومستقلّون هل تمّ الوقوف على رأيهم؟
أليس لهذه المكوّنات رأيُها ويجب أن تقول كلمتها طالما إنّ الهدف هو الوصول الى القانون العادل الذي لا يأتي على حساب أحد»؟ ويبدو أنّ للرئيس بري مقولة واضحة مفادُها «أنّ أقصر الطرق الى هدف معيّن هو الذهاب إليه مباشرةً بلا تعرّجات أو انعطافات».
ويبدو أنه أسقَطها على المسار الانتخابي واعتبَر أنّ أقصرَ الطرق إلى إعداد القانون الانتخابي هو الذهاب فوراً إلى الدستور». ومن هنا قوله: «ها هو الدستور أمامكم طبِّقوه».
لا يرى السياسي في دعوة بري العودة إلى الدستور تراجُعاً عن مطلبه الأساسي باعتماد النسبية الشاملة، لكنّه وجَد الدستور الملاذ الآمن الذي يمكن الركون إليه، ونحن معه في هذا التوجّه.
خصوصاً وأنّ الصيَغ التي تمّ طرحها، ونتمنّى ألّا تكون الصيَغ والأفكار التي يقال إنّها جديدة ولم نطّلِع على فحواها بعد، مستنسَخة عن سابقاتها، والتي بيّنت أنّ بعض من ينادون بالنسبية وأنّهم ضدّ الستين، جاؤوا في بعض الطروحات بنسبية أسوأ من الستين.
ولذلك ، يضيف السياسي، «إن استمرّ»المقص الأعمى»، في المنحى الذي يجزّ فيه، من حقّ كلّ طرف أن ينأى بنفسه عن شفرتَيه، لن يكون مفاجئاً إن رفعَ الساكتون أصواتهم بالكلام المباح والانتقاد المباشر والصريح والعلني لحامل المقص، كما لن يكون مفاجئاً إن رفعَ جنبلاط سقفَ اعتراضه إلى الحد الأعلى ومارسَ كلّ المستطاع ليمنعَ وصول أيّ قانون مجحِف بحقّ طائفته إلى مجلس النواب، والحال نفسُه ينطبق على كلّ المعرّضين للإقصاء أو التذويب أو الإلغاء.
هنا الرهان يبقى على حارس المرمى المتمثّل بالقوى التي تتمسّك بالتمثيل الشامل والعادل والمراعي لكلّ المكوّنات، بما تملك من قوّة ونفوذ وقدرة ومسؤولية على صدّ ركلةِ الجزاء التي يحاول البعض تسديدَها في مرمى البلد وبعض مكوّناته لفرضِ قانون التذويب والإلغاء.
في نهاية كلامه، يَخلص هذا السياسي إلى القول: «إنّ كلّ الذي نراه، مقروناً بالمنحى الاستعلائي المتّبَع ولغةِ التحدّي نحو اتجاهات معيّنة، يؤدّي إلى مكان واحد، إلى المشكل. والمشكل آتٍ لا محالة.
بعض الأطراف تحاول من خلال لعبة إعلامية سياسية أن تُظهِّر نفسَها عبر بعض الطروحات – حتى ولو كانت إلغائية، بمظهر الطرف الجدّي والمجتهد والمقدام والحاضر الذي يقدّم الأفكار والطروحات، ليس للسير بها بل فقط لرميِ الكرة على الآخرين ومحاولة إظهارهم في موقع المعطّل. الحقيقة المحجوبة حالياً هي أنّ هناك اختلافاً عميقاً في الرؤى بين أكثرية الأطراف والمكوّنات، وما أخشى منه هو أن تكون هناك أوراق مستورة غير تلك التي تمَّ تظهيرُها على جرعات.
الآن يبدو أنّ هناك تصميماً من قبَل بعض الأطراف على الاستمرار حالياً في لعبة المسايرة والمداراة، لكنّ عناصر الاشتباك تتراكم وتتزايد، ومع استمرار هذه العقلية قد لا يَمضي وقت طويل إلّا وسيخرج المكنون والمكتوم إلى العلن وينزل الجميع إلى حلبة السجال والتقاصف السياسي من خلف المتاريس».