Site icon IMLebanon

حول النفايات الطائفية وطائفة النفايات

 

 

الفصل 48 من كتاب عواصف في ذاكرة

أبولو: “انتقل الجدل الطائفي إلى المدارس والجامعات، ومن ضمنها مدرستنا حيث الإنقسام كان واضحاً بين التلامذة حسب أسمائهم!”

 

من كان اسمه أحمد أو محمود أو عمر مثلاً، كان يؤيد العمل الفدائي انطلاقاً من لبنان، أما من كان اسمه طوني أو جورج أو ضومط فقد كان ضد العمل الفدائي. الإشتباه كان يقع مع أصحاب الأسماء المحايدة مثل ربيع أو جميل أو سليم، خاصة إن كانت أسماء عائلاتهم ملتبسة أيضاً. يصبح الإستدلال عندها مبنياً على مكان السكن أو اسم القرية، فإن كان من بشرّي مثلاً فهو ضد المقاومة، وإن كان من سير الضنية فهو على الأرجح معها. كان الجدل مضبوطاً بصرامة بعصا البونا بطرس، ولم يصل وقتها إلى مرحلة الصدام إلا نادراً، والعقاب كان كالمعتاد بالجلد على راحة اليد.

 

الوضع كان أخطر في الجامعات في بيروت حيث كان الجدل أكثر عنفاً، وفي بعض الأحيان دموياً. أصبحت الجامعة اللبنانية، على وجه التحديد، منبراً للأحزاب ومسرحاً للنشاط السياسي، ولم تنج حتى الجامعتان الخاصتان العريقتان مثل الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية من هذا الحراك.

 

أذكر أن الإلتزام السياسي للشاب في تلك الأيام كان مرادفاً لاعتراف زملائه بوجوده. أما الحياد أو الإعتدال فكانا نوعاً من التخنّث المعنوي ومدعاةً للتهكم الجارح من قبل الرفاق. دفع ذلك الكثيرين للإنتماء والتمترس وراء مجموعة ما لتفادي العزلة وللإستقواء بالرفاق، بغض النظر عن مدى الإقتناع بالنهج السياسي أو المسار العملي للمجموعة.

 

لايمكن طبعاً حصر مسألة الإنقسام في المجتمع اللبناني يومها بأسباب نفسية واجتماعية فحسب، فالواقع هو أن جملة من المؤشرات السياسية المحلية والإقليمية والعالمية كانت تشي بأن الأمور سائرة في لبنان إلى الكارثة عاجلاً أم آجلاً. كان ذلك في ظل تشوهات واضحة في النظام السياسي البرلماني في لبنان الذي لا يشبه شيئاً في العالم الديموقراطي بسبب التقسيم الطائفي، كما أن امكانية تفاعل التجربة الديموقراطية في لبنان مع محيطه كانت معدومة مع إسرائيل بسبب العداء ومستحيلة مع سوريا بسبب الإنغلاق السياسي الذي تسبب به نظام البعث فيها. يُضاف إلى ذلك الصراع المستمر على المستوى العالمي الذي سُمي الحرب الباردة بين الرأسمالية والشيوعية، واستمرار التعقيدات في وجه الحلول للقضية الفلسطينية مع ما أنتجه من لجوء فلسطيني إلى لبنان أدى إلى الإخلال بالتركيبة السكانية الطائفية.

 

الغريب المضحك هو أن الإنقسام انسحب أيضا ليتمحور حتى حول الإنجازات الفضائية. كان إنجاز “أبولو” و”نيل أرمسترونغ” عندما حط على القمر ضحيةً لهذا الأمر!

 

هذا الإنجاز الذي اعتُبر “خطوة هائلة للبشرية”، اعتُبر نكسةً لمؤيدي المقاومة الفلسطينية لأنه سُجل في خانة الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي الإمبريالية الداعمة لإسرائيل، في حين كان يحسبه أعداء المقاومة انتصاراً باهراً على الشيوعية الداعمة للعروبة والإسلام؟”

 

أردت أن أذكر هذا الفصل من رواية لن تنشر على الأرجح، ففيها الكثير مما يفضح، ولكن من المفيد اليوم التذكير بأن منطق الطائفية غير محصور بموضوع دون غيره، ولا يمكن بالتالي فصل قضية مكب النفايات عن الإستخدام الطائفي، أو استحضار الطائفية لتسويغ وجهة نظر فريق في مواحهة الآخر.

 

فحين نصر على النظام الطائفي وندخله في مسألة وظائف الدولة والناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية وفي الجدل المستجد حول تفسير المادة 95 من الدستور، ستبرز مسألة النفايات لتصبح مجرد إضافة منطقية في بلد لا يزال منطق العشائر يحكمه. صحيح أن قضية النفايات الأخيرة لا علاقة لها بطائفة النفايات، فنصف تلك النفايات من مناطق أكثريتها من المسلمين، لكن الجدل المتمادي في وسائل التواصل الإجتماعي التي تخطت بأشواط مواهب الزعامات العشائرية والمناطقية والطائفية، استدرجت تلك الزعامات إلى ساحة الشعبوية من أبواب عدة، ومن ضمنها الباب الطائفي، فهو الباب الأسهل الذي تربينا عليه ونشأنا على أصوات مدافعه ومتفجراته ومجازره وتهجيراته. لذلك ليعذرني وزير بيئتنا الشاب لأن النفايات بالتأكيد طائفية طالما أن الرئاسات طائفية والوزارات طائفية النيابة طائفية، والوظيفة في الدولة التي حاولت التحرر من الطائفية، عادت وأدخلت عنوة في المحظورات الطائفية من باب “مقتضيات العيش المشترك!”، أي أن أهم أسباب تدمير العيش المشترك وهو تقييد رزق الناس بالقيد الطائفي، يصبح بالنسبة لبعض الأغرار في السياسة والإجتماع من مقتضيات العيش المشترك! هذا إذا افترضنا جدلاً أن سوء التقدير وليس خبثه هو السبب.

 

لكن، وبغض النظر عن الجدل الطائفي، وبغض النظر عن المستفيد والمتضرر من قضية تربل الأخيرة، كيف للمواطن، بغض النظر عن طائفته، أن يثق بوعود من أي مسؤول في الدولة، وبغض النظر عن طائفته، بأن المكب صحي ومؤقت، فلطالما خابت الظنون بالوعود والتطمينات، ولطالما أن كل شيء في الدولة كان، ولا يزال، حلولاً عشوائية من دون تخطيط أو رؤية، مجرد قرارات مترددة وملتبسة، تأتي على وقع المصيبة عندما تقع، رغم معرفتنا لسنوات، وعقود، بأنها واقعة لا محالة.