Site icon IMLebanon

نحو حل شيعي للمسألة السنيّة؟

تطورات العقدين الاخيرين تفيد بأن لبنان بات أسير الحركتين الحديثتين في الفكر والتنظيم والسياسة عند السنّة والشيعة، في مقابل مراوحة وتراجع عند المسيحيين والدروز، المستمرين على حالهم منذ قيامة هذا البلد، مع تغييرات سياسية طفيفة لا يمكن التعويل عليها للحديث عن مشهد جديد.

والمواجهة القائمة في لبنان بين ما يمثله كل من الشيعة والسنّة مرجّحة للتصاعد. وهي لا ترتبط البتة بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي الذي يسمح بالحديث عن صراعات طبقية. قد يكون أبسط تفسير لهذه العصبية سلوك الغالبية الساحقة من الناخبين السنّة والشيعة الذين يتجاهلون الفروقات الطبقية والاجتماعية ونظام المصالح، مقابل الانضمام الكلي في مشروع سياسي يحاكي حساسية لها بعدها التاريخي والعاطفي أيضاً.

الوقائع تقول إن انسحاب المسيحيين من القطاع العام لمصلحة القطاع الخاص، ترافق مع خسارتهم الحرب الاهلية التي أقصتهم عن قيادة البلاد. وقد فقدوا، مع الوقت، الكثير من عناصر القوة والنفوذ، بما فيها الصلة المميزة التي كانت تربطهم بالخارج القريب أو البعيد. وجاء التراجع الحاد في دور الكنيسة لمصلحة كتلة انتهازية تتنقل بين الاحزاب المسيحية القائمة، ليقضي على فرصة قيام كتلة ذات صوت وازن.

البلاد أسيرة تصادم سنّي ـ شيعي أساسه

مشروعان محليان وإقليميان يمثّلهما

المستقبل وحزب الله حتى جاء التيار الوطني الحر للعب دور خارج الاطار التقليدي، لكنه بدل أن يخوض معركة عودة المسيحيين الى الدولة ولعب دور الشراكة الكاملة مع الآخرين، انتهى بحصر نفسه في كونه يمثل كتلة وازنة في الشارع المسيحي. أما الانتفاضة الاجتماعية التي يفترض أن القوات اللبنانية قامت بها، فانتهت بالانضواء في قواعد اللعبة التي أبقت على الاقطاع المسيحي موجوداً عبر أحزاب أو أطر أو مؤسسات، وصار سمير جعجع، الآتي من ريف مسيحي مهمل، واحداً من المهتمين بتوفير كامل الشروط التي تجعله عضواً في النادي التقليدي.

أما على الصعيد الدرزي، فنحن أمام صمت رهيب، شعبي وسياسي ونخبوي واقتصادي، واستسلام غير مسبوق لقيادة يبرز فيها وليد جنبلاط ويحضر فيها الآخرون. لكنها قيادة لا تملك فكرة جديدة، ولا مهمة جديدة، ولا تعكس فهماً للمتغيرات الهائلة التي عصفت بالبلاد والمنطقة والعالم. فعاد الشعور الأقلوي ليسيطر على العقلين القيادي والقاعدي، ما يدفع بالدروز، عملياً، الى الجدار، في انتظار من يقرر المصير. أما ادّعاء المقاومة، فهو مجرد عملية انتحارية لا تؤذي الخصم بأكثر من صوت مرتفع.

ماذا عن الشيعة والسنّة؟

جرت تحولات عميقة أطاحت القيادات التاريخية التقليدية وعدّلت جذرياً في نوعية التمثيل. ترافق ذلك مع تعاظم القوة اقتصادياً وعددياً وعسكرياً وإقليمياً ودولياً. وتبلور الامر على صورة الحركتين الجديدتين المتمثلتين في تيار المستقبل وحزب الله، حيث غالبية شعبية تسير خلف زعامات من دون جذر تقليدي، وتحكم تصرفاتها روح المغامرة التي قادت الى التغيير العميق. لكن الحال، أن الفريقين انخرطا سريعاً في أحلاف إقليمية ودولية، وهو أمر طبيعي ومنطقي، بخلاف ما يقول كثيرون. هذا الانخراط أتاح تعاظم القوة والنفوذ، لكنه كشف عن صدام عنيف كان يقترب يوماً بعد يوم، الى أن وصلنا إلى ما وصلنا اليه اليوم، وما قد يتفاقم سلباً مع الوقت.

هناك أمور كثيرة تقال في هذا المشهد. الاساس هو أن الظاهرة الحريرية كانت تقول باستبدال النفوذ الماروني التقليدي بنفوذ مسلم، حتى ولو جرى العمل بـ«عدّة النصب اللبنانية» نفسها، بينما كان «حزب الله» ينضوي في حركة مقاومة تعبّر عن الإحباط من «مشروع الدولة اللبنانية». وقاد ذلك الى صراع بين هويتين وفكرتين لا تشبهان صورة لبنان المقتول عام 1975. ولذلك، فإن التقدم الذي سجله الطرفان داخل مؤسسات الدولة لم يكن ضمن رؤية موحدة أو حتى مشتركة. وتحول مع الايام الى استخدام واضح لمؤسسات الدولة في خدمة البرامج السياسية التي تخص الطرفين. وهذا أدى عملياً الى قيام صيغة حكم جديدة، ولكن من دون أن تكون للبلد هويته الجديدة.

بهذا المعنى، صار الحديث عن برنامج الاعمار الذي أطلقه رفيق الحريري حديثاً عن امتداد المشروع الاقليمي والدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يستهدف استقراراً عاماً، ولكن من ضمن سلة شروط أساسها فض النزاع العربي ـ الاسرائيلي، ومع الوقت، بدا كل ما يقوم الحريري معادياً لجوهر فكرة المقاومة التي مثلها حزب الله، الأمر الذي دفع الى أزمة ثقة لا تزال مستمرة حتى اليوم، وكل هدنة قامت، أو ستقوم، تعبّر عن تكتيكات سياسية فقط لا غير.

في المقابل، صار الحديث عن مشروع المقاومة الخاصة بحزب الله حديثاً عن امتداد لمشروع تقوده إيران وتنضوي فيه سوريا وأطراف فلسطينية وعربية، هدفه إعادة الاعتبار الى الصراع مع إسرائيل كعنوان يسبق كل العناوين الأخرى. وهو الذي تسبب بقلق كبير للطرف الآخر، خصوصاً عندما تصرف الحزب براحة مع اقتناعاته ومشروعه القائم على أن لبنان ليس جزيرة، وأن متطلبات حفظ مشروعه الاصلي قد تقتضي لعب أدوار قاسية ونوعية خارج الحدود. وما يحصل اليوم في سوريا يعكس هذه الصورة، ولا يتصل بما يعتقد كثيرون أنه دفاع عن نظام البعث في سوريا. بل هو دفاع استباقي في وجه قوة تستهدف الحزب وجودياً، ودفاع قتالي لمنع قيام نظام يعود ليأخذ سوريا الى المشروع الذي تقوده الولايات المتحدة في العالم.

اليوم، لا ينفع كل كلام عام يقوله تيار المستقبل عن مقاومة العدو الصهيوني وعن الاعتدال وعن مشروع الدولة وخلافه، لأن من يقتنع بهذه العناوين لا يسلك طريقاً مناقضاً لها. وهو أمر ترافق، منذ بروز النفوذ الحريري، مع ميل للسيطرة، حيث أمكن. وما فعله السوريون طوال 15 سنة في منع الحريري من الإمساك بكل شيء، حاول ورثته القيام به بعد خروج سوريا، متجاهلين أن العقبة ليست في النظام السوري، بل في كون الشريك الداخلي الأبرز، أي ما يمثله حزب الله، لا يمكنه القبول بهذه الصيغة.

في المقابل، يتصرف حزب الله بطريقة تجعل السنّة يشعرون بأنه لا يريد لهم أي نفوذ حقيقي، أو أي عناصر قوة، لا صعيد الزعامات ولا على صعيد القوى السياسية ولا على صعيد الحضور الاقتصادي والاعلامي. وهو الأمر الذي يمكن لشاب سنّي عشريني أن يسرده على شكل وقائع: لا يريدون الحريري، ولا يريدون الإخوان المسلمين، ولا يريدون السلفية، ولا يريدون تنظيم القاعدة، وهم أصلاً لا يريدون القيادات التقليدية… فمن هو الذي يناسبهم؟ هل هو الموقع أو الشخص أو التنظيم أو الجهة التي لا تقدر على التصرف باستقلالية؟

اليوم، قد يكون من غير المنطقي ومن الظلم رمي المسؤولية على عاتق الشيعة وحدهم. لكن الحل يكون في إقرار الشيعة بأن عليهم التعايش مع فكرة شريك سنّي قوي خارج إطار الحصار والتشكيك، وهو أمر لا تقول المعطيات إنه في متناول اليد، بينما يغرق السنّة في الانتقال من مبايعة غاضب الى مبايعة غاضب آخر، من دون الانتباه الى أن التغيير يجب أن يقوم أولاً على نقد ذاتي، من شأنه إعادة رسم الهدف والرؤية والدور… وليس بين أيدينا أي مؤشر على أن الامر سيسير على هذا المنوال. وهذا ما يزيد التأكيد على الدور المطلوب من الشيعة في معالجة المسألة السنيّة في لبنان!