Site icon IMLebanon

عن «طائف» لم ير النور

«اتفاق الطائف» بيت مهجور. لم يسكنه أحد. اللبنانيون ينتمون إليه لأنه مرجعيتهم، ولا يلجأون إليه لأنه يلزمهم، بما لا طاقة لهم ولا رغبة ولا مصلحة… التمسك به تقليد شفهي. الدفاع عنه انتهاز وخصومة وتطبيقه من سابع المستحيلات.

منذ نعومة نصوصه، تعرض «اتفاق الطائف» لعمليات بتر وتأجيل وتسويف. أفرغوه من نبضه، ثم تفرغوا لعزله. ونجحوا في جعله هامشاً مشتتاً، بعدما كان متنا، بنص يؤكد على محصلة من المبادئ والمواد الناظمة، افتراضاً، لحياة اللبنانيين، تحت شعار فذ وهش، «لا سلطة تتناقض مع العيش المشترك». ولقد اشترك الجميع في تأكيد الفراق المشترك والاشتباك المشترك، فأضحت السلطة ممتنعة، إلا إذا اشتركت الحواضن الإقليمية في رأب الصدع على زغل متبادل.

هو بالمضمون، وثيقة الوفاق الوطني. هو مقدمة الدستور وفلسفته وحاضن تعديلاته وناظم حياته السياسية والطائفية ومحصِّن مؤسساته. هو، في الأصل، أنهى الحروب اللبنانية، فألقت الميليشيات أسلحتها، على أن تبنى الدولة المدنية اللاطائفية، بعد أول انتخابات على قاعدة المناصفة. هو أكثر من ذلك أيضاً، صيغة فاضلة، إنما لجماعات غير فاضلة، وقيادات لا فضل فيها. لا مبالغة في القول إن «الطائف» كان فريسة هؤلاء، يتبارون في اللجوء إليه عندما تدعو الحاجة، وينصرفون عنه إذا توافرت ظروف الكسب خارجه.

كل هذا وصف يتكرر، مع كل مناسبة. اليوبيل الفضي لهذا الاتفاق ليس جديراً بالإعلان عن نفسه. عوّض البعض عن الاحتفال بالميت الوطني، باحتفال مصطنع، لقيام دولة لبنان الكبير. لم يبق من هذا الكبر إلا كل صغير، وإلا صغائر سياسية أفضت إلى خراب الهيكل وتداعي أعمدته، وأولها الوطن المقيد بحياة ميثاقه.

لماذا حصل كل ذلك؟ لماذا، بعد شهور قليلة على تنصيب اتفاق الطائف في مرتبة المرجعية، للبنان الثاني، انحطت مرتبته إلى الأسفل عمليا، فيما رتبته المفترضة، هي أولاً، ولا أول قبله؟ لماذا صار اسماً على غير مسمّاه؟ لماذا بات التمسك به، مثار سخرية، إلا إذا كان التمسك به من فريق، إحراجاً لفريق آخر؟

المشكلة ليست في «اتفاق الطائف»، ولا في «الدستور اللبناني» بصيغته الاستقلالية، ولا بـ«الميثاق الوطني» الأول الذي ولد على يدي الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح.

لبنان لا يشبه نصوصه. الدستور والقوانين تستحقها شعوب تدربت ثقافياً وسياسياً على اعتبار الامتثال للنص فضيلة كبيرة، كامتثال المؤمن لنصه الديني. لبنان سيئ السمعة والسلوك، ليس بسبب نصوص دستوره، ولا بسبب مواثيقه الوطنية، المكتوبة وغير المكتوبة. هو سيئ لأنه يعتبر «الكتاب»، بلغة فؤاد شهاب (أي الدستور)، قيداً يتوجب على السياسي كسره أو تجاهله. بشرط الاحتفاظ بالشكل.

أُعطي اللبنانيون كياناً. أساؤوا إليه. حتى من تعصب لعقيدة لبنان الأزلي السرمدي الفينيقي، أساء إلى الكيان. ينظر إلى الكيان على أنه غنائم، يلزم لتوزيعها تطبيق نظام المحاصصة. أي نظام توزيع غير عادل، للمناصب والمنافع والمشاريع، ولأصحاب السلطة وأزلامهم، بلا رقيب أو حسيب.

وأول من خرج على الدستور، بُناته. بشارة الخوري عدله ليجدد، فزوّر الدستور وزور الانتخابات. وعرف لبنان، وهو ما زال شديد الاتصال بالدستور، عبر «الدستوريين»، أول طعنة للنظام والكيان. قبل ذلك، شهد عبد الحميد كرامي على قيام «دولة المزرعة» (والتسمية له) وذلك في العام 1945. وبعد ذلك، فرطت «الشراكة الوطنية»، عندما أطلت الأحلاف الغربية إلى المنطقة. فشعار لا شرق ولا غرب، وليس للاستعمار ممراً أو مقراً، سقط مع أول إطلالة أميركية على المنطقة، بعد انحسار الثنائي البريطاني ـ الفرنسي.

ليس بمقدور اللبنانيين التقيد بالقوانين. مثل هذه الثقافة، إذا انتصرت، من شأنها أن توفر الزعامات السياسية الطائفية. هذه زعامات تعتبر الإدارة أحزابها الخاصة، وموظفيها أتباعاً لها، وإداراتها ملكيات طائفية. والزعماء مؤتمنون عليها، لتصريف مكاسبها على «المحازبين» التابعين والموالين. إذا طبق الدستور واحترمت القوانين، تحرر الناس من التبعية وباتت منفعتهم مؤمنة، وكرامتهم مصانة، بمقدار ما تلتزم السلطات بقدسية القوانين.

البديل من النصوص هو عقيدة الصفقة المربحة. وتأمين ظروف نجاح الصفقة يقتضي تأمين شروط غض النظر، وشرعنة الفساد، واعتباره عقيدة سياسية تترجم بصوت عال… الفساد في لبنان هو أساس. كل ما يبنى هنا، على فساد. لا إمكانية لاستمرار النظام، إلا بتعميم الفساد. والمطلوب، ليس «الإنماء المتوازن» كما نص «الطائف»، بل الفساد المتوازن، بحيث يصيب الفساد المناطق المحرومة، بعدما أتخمت المناطق المحظية، بجنون الفساد اعتداءات على الأملاك البحرية والكهرباء والماء والنفط والغذاء والجامعة والمدرسة والاستشفاء والجباية والجمارك والمحاسبة والقضاء والأسلاك كلها، إلى جانب مؤسسات الرعاية والإغاثة، التي ظهر أن كرمها الضئيل، يخفي نهباً غير قليل.

تطبيق اتفاق الطائف والالتزام بالدستور والقوانين، أياً كان الاتفاق وأياً كانت المواد، يعني بناء دولة. قد يكون نظامها سيئاً، ولكن منطق الدولة يفرض تعديل النظام، بوسائل نظامية وبأطر ديموقراطية.

نحن لسنا من هذا العالم.

لدينا هراء من نصوص ضخمة، ويأس من إمكانية الإصلاح.

فلماذا الكلام على بنود الطائف؟ لماذا استذكار ما طبق منه وما لم يطبق؟ لماذا استنفار الناس، إذا مُسّت مصالح زعيم لطائفة؟

أثبت اللبنانيون أنهم غير جديرين بالنصوص الناظمة لحياتهم السليمة المفترضة. لذا، فمن يتباكى على الطائف من هذه الطبقة السياسية، يبكي بلا دموع. بكاؤه استدراج عروض لمراضاته، لا أكثر ولا أقل. بتفسير مادة دستورية، على هواه، سيجد ضد تفسيراً مضاداً، على هواه أيضاً. لا كيان باقٍ إلا هذا الركام. فلا يُلام طائف، يبقى برغم عيوبه، أرقى من شعبه ومن قادته. ولا يلام دستور، برغم ما يعتوره، وهو قليل، أفضل من قبائله وعائلاته وأحزابه وطوائفه ومذاهبه. بل، وأكثر من ذلك، حرام أن ينتسب هذا النص، إلى هذه الطبقة، التي ورثت الفساد، أباً عن جد عن أرومة سياسية طائفية، طاعنة في تأمين فتات الخدمات للناس، والحصول على صفقات بالملايين. مسكين «اتفاق الطائف». يتيم منذ ولادته. لا شبهة فيه، بل في من تولى أمر تهجيره وتهجينه.

كان يمكن لهذا الاتفاق لو نفذ، أن يبني دولة ديموقراطية مدنية بنظام يطمئن العائلات الروحية على مصائرها، ويمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً، خارج القيد الطائفي، فتسود المساءلة والمحاسبة ويستقيم عمل المؤسسات وتحرر من التبعية والفساد.

كان ذلك ممكناً. ولكنه بعد 25 عاماً على «الطائف» حان وقت التشبه بدريد لحام: «كاسك يا وطن».

إن تبرئة الطائف مما ألحقه به اللبنانيون من نكران، تشبه تبرئة الإسلام مما ألحقه به «الإسلام السياسي» بوجهه «الجهادي» في «داعش» و«النصرة»، فهل كنا كهؤلاء؟