أول تشرين الأول 2004، كان رجل الفكر والسياسة والانفتاح والدماثة الإجتماعية والخلقية المتناهية، الوزير مروان حماده على موعد مع بداية مسلسل القتل الإجرامي الذي طاول الساحة اللبنانية، مستهدفا كوكبة من قادة وساساة لبنانيين كانت لهم بصماتهم شديدة الواقع والأثر في تاريخ لبنان الحديث، ولئن كانت محاولة الإغتيال التي تعرّض لها الوزير حمادة قد فشلت برعاية إلهية، فأن سلسلة من الجرائم الآثمة قد ارتكبت بحق كل من قاوم مطامع ومطامح النظام السوري ولواحقه، وكان شهيد لبنان الأول الرئيس رفيق الحريري حيث عمدت الأيادي الآثمة إلى تفجير موكبه في أفظع وأشنع جريمة ارتكتب بكل المعالم والنتائج والمقاييس، وواكبتها سلسلة من الجرائم الإغتيالية التي تناولت جملة من الممانعين للوصاية السورية والساعين إلى رفع أثقالها القمعية والدموية عن لبنان، حتى إذا ما تحققت تلك الجريمة الآثمة على النحو والتنفيذ والبرمجة التي تنظر المحكمة الدولية في لاهاي في تفاصيلها وهي تخطو في ذلك أشواطا هامة قاربت على الإنتهاء، إلاّ أن سلسلة الجرائم التي نفذت بنجاح تارة كما في حالة الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبفشل تارة، كما في حالة الوزير حمادة، قد شكلت وضعية تحوّلٍ إنحداري في المنطقة عموما، وفي لبنان خصوصا، فعلى مستوى المنطقة بات لنا في ما حلّ بسوريا من ثورة شعبية شاملة بدأت بخطى سلمية تمثلت بجملة واسعة من المظاهرات التي طالبت بإسقاط النظام القائم، وتحولت إلى عمليات قتل وإبادة جماعية وتهجير ملايين المواطنين إلى شتى أصقاع الداخل والخارج، وحوّلتها إلى بلد تحتله إيران وميليشياتها وروسيا وطموحاتها، ولنا بجملة الإقتحامات التي مارستها إيران من خلال تغلغلها المسلح في عدد من بلدان المشرق العربي حاملة نهجا مذهبيا وتوجها فارسيا ينادى بالعلن الصريح مدّ اقتحاماته من طهران إلى بيروت، بل هي قد زادت من حجم وحدود طموحاتها إلى اليمن وكثير من البلدان الآسيوية والإفريقية الأخرى في كل موقع تطاله، من خلال ميليشيات محلية تخوض حروبها بالوكالة، وتبذل في ذلك، دماء وأرواح الآخرين. وعلى صعيد لبنان ازداد زخم الدويلة المسلحة إيرانية الهوى والإيديولوجية والمذهب، ومنذ أن غادرت القوات السورية الأرض اللبنانية عقب ثورة الأرز التي توّحد اللبنانيون بمعظم فئاتهم وجهاتهم حولها، سلّمت مواقعها إلى حزب الله، واستمر نهجها به ومن خلاله، وكانت أهم الثمار التي خلّفتها تلك الثورة، ذلك التكتل الوطني الكبير من خلال ما أسمي في حينه، تكتل الرابع عشر من آذار، الذي حمل رايات العمل الوطني الموحد، وكانت له إنجازات كبرى جوبهت من خلال الحركة المناقضة والمناهضة المتمثلة بكتلة الثامن من آذار، المدعومة ببقايا النظام السوري المنسحب وبالدعم الإيراني المتماهي مع بعض القوى المحلية وفي طليعتها حزب الله، وضمت إلى صفوفها جزءا من المجتمع المسيحي المتمثل بالاتجاهات العونية، التي استدارت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار المتمذهب وتحولت من حركة لبنانية متعصبة إلى حليف لحزب الله وتوجهاته وانتماءاته الإيرانية والسورية، ولعبت مع تكتل الرابع عشر من آذار جملة من ألعاب عض الأصابع، فأفلحت من خلالها في اختلاق أزمة رئاسية حققت فراغا في موقع رئاسة الجمهورية استمر إلى ما يناهز العامين ونصف، ونجحت في ضرب أسافينها في وحدة 14 آذار وجرفتها مع الأسف إلى موقع أخذ يبعد شيئا فشيئا عن موقف التوحد الوطني الشامل الذي سبق أن حققته ثورة الأرز، وفي بحث لبعض أركانها عن الحلول التي يمكن أن تخرج البلاد من مأزقها الرئاسي، كان ما كان من انتخاب للعماد ميشال عن لرئاسة الدولة فكانت مصالحة ما بين خطين متناقضين طمعا في استمالة الرئيس عون وفريقه إلى الموقع المعقول والمقبول محليا وعربيا ودوليا… ودونما دخول في التفاصيل التي يمكن أن ننبش من خلالها بعض الحساسيات والخلافات على أكثر من مستوى ومن صعيد.
ها نحن اليوم هنا، وها هو الوزير مروان حمادة يستذكر في أكثر من موقع إعلامي ما قدّره له الله عزّ وجلّ من نجاة من محاولة الإغتيال الآثمة التي أبقته لنا عمادا من أعمدة السياسة الوطنية الحرة، وها نحن جميعا ما زلنا ننتقل بعواطفنا إلى حالة الزهوّ والإفتخار الوطني التي حققتها مرحلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري المتألقة والناجحة بكل المقاييس، وها نحن مع مرّ الأيام والظروف والتطورات نفتقد إلى ذلك الجمع الوطني الشامل الذي أطلقنا عليه تسمية الرابع عشر من آذار، ونفتقد معه توحّداً اسلاميا- مسيحيا وثيقا ومترابطا ومتكاملا، حققنا به ومعه كثيرا من الأهداف، وأخفقنا به ومعه في تحقيق الكثير منها، وكان لدينا أمل كبير بأن نعلي أكثر فأكثر، كلمة الوطن الواحد السيد الحر المستقل، ونعلي معه كلمة الدولة الواحدة التي يحكمها أبناؤها من خلال أهدافها وركائزها ومصلحة وطنها ومواطنيها، ومع الأسف لم تستمر هذه الوضعية، وحلت مكانها أوضاع أخرى مناقضة، وخابت آمالنا في أن يكون لنا ذلك الوطن وتلك الدولة، وها نحن اليوم نعيش أوضاعا من التراجعات المتلاحقة والمتمادية في كل الصعد والميادين، وها نحن نسعى إلى تشكيل حكومة لا نفلح في تشكيلها إلى درجة الإستحالة.
وها هي التناقضات والانقسامات الداخلية تستفحل وتتضاءل الروابط فيما بينها يوما بعد يوم، وها نحن نفكر بالبدائل عن حكومة يمنع الدستور والروابط الميثاقية وحقائق التوازنات الداخلية من أن تتحقق وتتشكل، وها نحن أمام كل المشاكل والأزمات والمآخذ التي نعاني منها منذ سنوات وقد تعملقت أحجامها نزولا إلى مستوى مخيف ومقرف ومستفحل ويكفي أن نعدد بعضها متمثلة بالكهرباء والزبالة والمياه والبيئة المسرطنة وما يحوم حول معظمها من تساؤلات واتهامات وشبهات مؤسفة.
أما عن الوضع الإقتصادي، فحدّث ولا حرج، وها هو الرئيس الحريري الذي بذل جهودا خارقة لعقد مؤتمر سيدر والإستحصال منه على تلك التسهيلات والقروض البالغة حجما يزيد على أحد عشر مليار دولار، ها هو يجد نفسه أمام احتمال بانهيار كل تلك الجهود وتلاشي احتمالات الانقاذ والخلاص الاقتصادي والمالي التي بنيت عليها، مع استمرار متفاقم لعملية التدهور الاقتصادي وصولا إلى حدود الأخطار الداهمة، وها نحن الآن وقد ازدادت همومنا هموما، نجد أنفسنا أمام عهد قوي فاذا قوته تستغل من قبل البعض لتكون أهم الأسباب المعرقلة لتشكيل الحكومة وتمكين البلاد والعباد من إتمام مسيرتهم الحياتية الطبيعية، واذا الهدف الاسمى للممسكين بالمقاليد، حجز موقع الرئاسة المقبلة قبل أربع سنوات من استحقاقها، لشخص محدد معين بذاته وتوجهاته وطبيعة شخصيته المتعاركة مع الجميع، وها هي اسرائيل تهدد وتتوعد لبنان بمرتكزات وتطورات أوضاع حزب الله العسكرية فيه مستبدلة استهدافاتها الإيرانية باستهدافات لبنانية محددة ببيروت كهدف محتمل من أهدافها المقبلة ومطار بيروت كرمز لاستهداف الدولة نفسها.
ومع الأسف… مع كل مطلع شمس يزداد حجم الاستهدافات ويزداد حجم المخاطر.