IMLebanon

عن أرمينيا المنتفضة والمنقسمة و”شريكتنا” في نموذج “السيادة المحدودة”

 

بعد سنوات من انحسار العمل الإنتفاضيّ الشعبيّ على الصعيد العالمي، يأتي الحدث الجماهيريّ من البوابة القوقازية، من أرمينيا، التي لا يجمعها بلبنان رابطة الإنتشار الأرمنيّ فقط، بل تشاركه أرمينيا، على طريقتها، نموذج “السيادة المحدودة” والمؤسسات الدستوريّة المتصدّعة، وعدم النجاح في شق سبيل الديموقراطية بشكل مستدام، على الرغم من وجود تعددية حزبية حقيقية ومناخ متقدم من الحرّيات، مقارنة بالجوار العربي لبنانياً، وبالجمهوريات السوفياتية السابقة “الجنوبية”، أرمنياً.

 

وإذا كان اللبنانيّون الأرمن يستعدّون بأحزابهم القومية ومرشّحيهم المستقلّين للإنتخابات التشريعية، في مرحلة يعاني فيها الوجود الأرمني اللبنانيّ من نزيف ديموغرافي محسوس أكثر من أي جماعة أهلية أخرى، بفعل الهجرة في المقام الأوّل، فإن العين تتابع بمزيج من التأثر والشغف والأسئلة، لهذا الحدث الإنتفاضي الأرمني، الذي لا يبدو أنّه آيل للإنحسار سريعاً، وقد نجح بعد عشرة أيام من التظاهرات الحاشدة في يريفان، في دفع رئيس الوزراء سيرج ساركيسيان، الذي يحكم البلد منذ عشر سنوات، مرتين كرئيس دولة ومرة ثالثة كرئيس حكومة، ويحاكي “نموذج المناوبة الروسي” بين بوتين وميدفيديف، بمناوبة بينه وبين ارمن ساركيسيان (الذي لا يمت اليه بقرابة رغم الاشتراك في اللقب العائلي)، على الإستقالة والإعتذار للشعب المتجمهر في الساحات عشية ذكرى الإبادة، وقد انضمت لحركة الناس الغاضبة وحدات من الشرطة.

 

بيدَ أنّ طريق “الشعب يريد” الأرمنية لن تكون بهذا اليسر، ولهذا عاد الناس للإحتشاد والتظاهر مجدداً مطالبين بالإنتخابات العاجلة، وبتفكيك سيطرة “الحزب الجمهوري” الذي أخذ يتمدّد نفوذه على المؤسسات والمرافق منذ الإطاحة عام 1998 بالرئيس الأسبق ليفون تير بيتروسيان، المؤرخ المولود في حلب وأول رئيس لأرمينيا المستقلة. أطيح بتير بيتروسيان عام 1998، لفشل حكمه على الصعيد الإقتصادي، ولحصول أعمال تزوير في الإنتخابات، وبدعوى أنّه جنح للتفريط بالموقف في “ناغورنو كاراباخ” في مواجهة الخصم التقليدي لأرمن القوقاز، أذربيجان، وبأنّه ينوي “التطبيع” مع تركيا. وكان تير بتروسيان حظر “الفدرالية الثورية الأرمنية” (الطاشناق) عام 1994 بدعوى أنّها حزب تآمريّ مرتبط بخارج أرمينيا، ولم يُرفع الحظر عن “الطاشناق” في أرمينيا إلا بعد الإطاحة بتير بتروسيان، علماً أنّ للحزب نفوذاً في “ناغورنو كاراباخ” أكثر مما له في أرمينيا نفسها، وحضوره في الدياسبورا الأرمنية عبر العالم أقوى بكثير مما هو في أرمينيا نفسها.

 

أما “الحزب الجمهوري” الذي يظهر جليّاً اليوم أنّ تفكيك سيطرته ليست بسهولة دفع “الرئيس المتناوب” سركيسيان للإستقالة، فهو حزب أوليغارشي وجماهيريّ في آن، له نفوذ كبير ضمن أجهزة الدولة بدءاً من كبار موظفيها، وفي شبكة واسعة من رجال الأعمال، ويقول هذا الحزب أنه يضم 140 ألف عضو، وهذا رقم كبير جداً في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الثلاثة ملايين.

 

و”الحزب الجمهوري” الذي يسعى زعيم حركة الإعتراض الحالية، نيكول باشينيان إلى التهديف بزخم عليه طالما الجمرة متقدة في الشارع، وتفادي مغبة “نصف الإنقلاب”، هو حزب أوحت موسكو منذ سنوات طويلة بأنّها “راضية عليه” وأكثر، وبأنّه يؤمّن نفوذها في أرمينيا. هو تشكيل أوليغارشي – تيروقراطي يعتنق أيديولوجيا قومية خاصة، تتنسب إلى غاريغين هاروتينينان نجدي (1886-1955)، الذي انضم الى الطاشناق ثم اختلف معه، وهو مؤسس “أرمينيا الجبلية” في مواجهة تلك السوفياتية، ثم المتعامل مع ألمانيا النازية وجيشها بوجه الإتحاد السوفياتي أيام الحرب العالمية الثانية، ومات بعدها في المعتقل. وهذه مفارقة، في وقت تعادي فيه موسكو الحركة القومية الأوكرانية، أيضاً لإنضمام رائدها، ستيبان بانديرا، الى المعسكر النازي في أيام الحرب، فإنّها اعتمدت لممارسة نفوذها في أرمينيا في العقدين الماضيين على ورثة غاريغين نجدي، المتعامل هو الآخر مع المانيا النازية في أعوام الحرب.

 

و”الحزب الجمهوري” (58 نائباً من 105) الذي يحاول اليوم البقاء في حكم أرمينيا رغم الإطاحة بزعيمه ساركيسيان، داخل في ائتلاف مع “الطاشناق” (7 نواب)، ويبدو أنّ الطاشناق آخذ في اخلاء يده من هذا الإئتلاف، والأخذ بعين الحسبان نبض الشارع، رغم أنّ زعيم حركة الإعتراض، نيكول باشينيان، نشأ أساساً في كنف الخصم اللدود للطاشناق، تير بيتروسيان، وقد استطاع الاثنان عام 2011 الاستفادة من مناخ الثورات العربية لإطلاق حراك يحاكيها في يريفان، ولم يتمكنوا من الذهاب بعيداً، لكن يظهر أن الأمور مختلفة للغاية اليوم، هذا في مرحلة نشهد فيها انتصار الثورة المضادة للربيع العربي على غير صعيد، وفي موازاتها مناخ من الإكتئاب تعاني منه حركة التوسع الديموقراطي بإتجاه العمق السوفياتي السابق.

 

رغم الشعارات الليبرالية التي ينادي بها نيكول باشينيان (المولود عام 1975) وإدراج ما يقوم به ضمن إطار حراك المجتمع المدني في أرمينيا، إلا أنّه يحرص مع هذا على تجنّب “حساسية موسكو” بازائه. فقد وصف الحدث الحالي مثلاً على أنّه أوّل ثورة تشهدها بلدان الاتحاد السوفياتي السابق من دون تدخل خارجي، في اشارة إلى السمة “المحابية للغرب” عند الجيورجيين والأوكرانيين مثلاً. بدورها، يبدو أنّ موسكو تسلك في ارمينيا مساراً “استيعابياً للجميع” مختلف تماماً عن سلوكها في أوكرانيا، خاصة وأنّ شرايين الطاقة والحياة في هذه الجمهورية الصغيرة الجبلية تعتمد على روسيا. في نفس الوقت، يأتي الحدث في لحظة إشكالية تماماً بالنسبة إلى روسيا، ولا يمكن مسبقاً التكهّن بمدى نجاح سياستها “الإستيعابية” للغضب الجماهيري في أرمينيا، خاصة إذا خرجت الأمور عن السيطرة بالنسبة إلى تكتل كبار رجال الأعمال وكبار موظفي الدولة الحاكم. المسار الأرمني جدير بالمتابعة، خاصة بالنسبة إلى بلد كلبنان، يرزح هو الآخر تحت صنف آخر من السيادة المحدودة والتخلّع المؤسساتي، مع فارق أساسي بين التجانس الإثني في أرمينيا (الأعلى من أي جمهورية سوفياتية سابقة أخرى)، وبين ضمور أساسات التعاقد الإجتماعي بين اللبنانيين.