بصراحة أنا أحسد أولئك القادة الميامين أصحاب الكاريزما والقداسة والصدق والطهارة والهيبة… فهم يأتون في زمن ملائم، ويمتطون عبارات لا تحتاج لا إلى منطق ولا إلى إثبات، وهم يعلمون مسبقاً بأن من يتجرأ على التفزلك والنقاش، أو طلب البرهان والحجة منهم، سيتحول حتما إلى كافر أو خائن أو منحرف، وبالتالي فهو من قلة من البشر لا تلبث أن تختفي بقوة الإرهاب المجتمعي أو القتل أو السجن أو الهجرة.
إن هذا الواقع ما هو إلا تعبير آخر عن قوة الفكرة التي تأتي في زمن مناسب، عن طريق شخصية مناسبة، وضمن المجتمع المناسب، فتتحول إلى حالة مقدسة، ويصبح الشخص الذي يحملها مقدساً، ويتحول المجتمع المعني إلى أداة تديرها فكرة، وتطربها فكرة، وتدفعها إلى الموت فكرة، لمجرد أنها أتت في الوقت المناسب، وعن طريق الشخص المناسب.
لكن الأهم في كل هذا السيناريو هو أن هذه الفكرة تصبح بحد ذاتها جزءاً لا يتجزأ من رموزها أكانت شعارات أم شخصيات، وذلك بناءً على عوامل عدة ترتبط بالزمن والبيئة والموروث الثقافي.
فإن قلنا ألمانيا اليوم، فقد يرتسم أمامنا شعار سيارة مرسيدس كشعار، ولكن إن ذكرنا الشعب الجرماني، فيصبح الشعار حتماً الصليب المعكوف، وترتسم بسرعة صورة الفوهرر وهو يخطب في الجماهير المسحورة بصدقه وشجاعته وجرأته على تحدي العالم بأجمعه، في سبيل خدمة فكرة لم تلبث أن تحولت إلى عقيدة مقدسة أخذت البشرية بأجمعها إلى محرقة الحرب العالمية، وتسبب هتلر المقدس الصادق والشجاع بمقتل اثني عشر مليوناً من شعب المانيا في سبيل فكرته، إضافة إلى خمسة وأربعين مليوناً آخرين من شعوب العالم.
تصوروا معي لو أن «كونراد اديناور»، الذي قاد ألمانيا بعد الحرب، وأصبح داعية سلام عظيماً، بأنه خرج من بين الجموع التي كانت تهتف «لبيك يا فوهرر» ليقول بأنه غير مقتنع بكل ما يقوله الزعيم القائد…
أنا لا أعتقد أن التاريخ يكرر نفسه، حتى لو تكررت أحداث تبدو متشابهة عبر التاريخ، لكن المؤكد هو أن البشر لا يتعلمون من تجارب الآخرين، فهم ينسون كيف ابتدأت الفكرة ويتجاهلون كيف انتهت. وفي كل مرة يظن هؤلاء أن فكرتهم أكثر قداسة، وأن القائد أكثر صدقاً، والأهم أن أسطورة عظيمة ترعاها لتوصلها إلى النهاية السعيدة، رغم العوائق المستحيلة، شرط أن يكثر أتباع الفكرة من التضحيات على الطريق!
ما لنا ولكل ذلك، فقد أطلنا الحديث، والمقصود واحد، إنه فكرة أن حزب الله يشكل فعلاً خطراً وجودياً على دولة العدو الغاشمة الغادرة التي لا رحمة لدى قادتها، والتي يحميها مجتمع الإستعمار العالمي والشيطان الأكبر.
تـلك الفكرة أتت في ظل فشل كارثي لمنظومات عدة واجهت إسرائيل منذ ما قبل إنشائها وصولاً إلى اجتياح لبنان سنة ١٩٨٢، وبعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، التي كانت تقود حرب عصابات ضد إسرائيل، ومعها اندحار قوات حافظ الأسد جواً وبراً، وكانت نظرياً تخوض حرباً تقليدية ضد إسرائيل أيضاً!
كما أن الشعارات السياسية التي قادت المواجهة مع العدو حتى ذلك التاريخ وصلت إلى حد التقديس، مثل فكرة العروبة أو مواجهة الإستعمار أو دحر الإمبريالية، كما أن بعض قادتها تحولوا إلى أشباه أنبياء، ينطقون بالحق وإن تجاوزوا المنطق في كلامهم!
فكرة المقاومة الإسلامية أتت في الزمن المناسب، زمن يئست الشعوب من أفكار أخرى غير إسلامية، كانت مقدسة إلى أن فشلت كلها في تحقيق غير الهزائم.
فجأة ركبت بروبغندا ذكية، فيها الكثير من الموروثات الدينية والإجتماعية، وتستند إلى أساطير شعبية تعتبرها شريحة واسعة من الناس الحقيقة الرسمية التي تصل إلى حد اليقين بالنسبة لها.
بالمحصلة فإن فكرة المقاومة أصبحت في ما بعد ١٩٨٥ محصورة بما يسمى الثنائي الشيعي، فتقاتلا أكثر مما قاتلا العدو بكثير، إلى أن حصرت «المقاومة» بشكل قسري في حزب الله، وتحول بعدها شعار «المقاومة» إلى ملك شرعي للحزب، مع ما ألحق به من أساطير دينية وعقائدية، وبالتأكيد أضيف إليها بناء كاريزما القائد الملهم الصادق النزيه المؤيد بالماورائيات.
المهم اليوم هو حقيقة هذه الفكرة، فأصحابها وأتباعها يؤكدون على أنهم الخطر الاستراتيجي الأكبر على وجود الدولة اليهودية، وأنهم حقيقة تمكنوا من بناء توازن رعب مع العدو على طريق حصولهم على عناصر القوة الكافية للإطاحة بإسرائيل!
يعني أنه كلما أخّرت إسرائيل عملية المباشرة بالقضاء على هذا الخطر، كلما زادت صعوبة إزالته، ومع الوقت فهو سيقضي حتماً عليها! لكن الغريب هو أن إسرائيل تقف مكبلة اليدين بانتظار تلك اللحظة التي ستقضي على وجودها ولا تحرك ساكناً؟!
والأغرب هو أن من يصرح اليوم بقدرته على القضاء على إسرائيل، إن كان من طهران أو من مخبأ في الضاحية، ويؤكد سعيه لإزالتها من الوجود، يقف مكبل اليدين ولا ينهي هذه الآن قبل أن تتمكن إسرائيل من الإستعداد الكافي للمواجهة؟!
أسئلة موجهة لمن هو ما زال أسير الفكرة وعبداً لكاريزما قائدها.
(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»