IMLebanon

حول الحاجة لتفهّم بعضنا البعض

«كما تريدون أن يفعل الناس بكم، إفعلوا أنتم بهم هكذا» لوقا 6/31

ما لنا وتقرير ما هو حق وما هو حقيقة، فالحقيقة والحق لا يمكن أن يكونا في المطلق، بل هما مرتبطان بعوامل متعددة من المكان والزمان والتاريخ والجغرافيا والتجارب الشخصية والحالة النفسية، وقد تكون الحقيقة مجرّد توافق مرحلي بين مجموعات من البشر… ولكن جلّ ما يمكن قوله هو أنّ البشر مختلفون، وكلّ واحد منهم قد يبتكر لنفسه عقيدة خاصة به. وقد تتكوّن عقائد جماعية بناءً على مفاهيم مشتركة، فتصبح هذه العقائد «الحقيقة» الرسمية للمجموعة. والجدير ذكره أنّ هذه القناعات التي تمثّل «الحقيقة» لمجموعة ما، قد تتناقض بشكل جذري مع قناعات أخرى لجماعات أخرى. التعدّدية في المجتمع هي اجتماع مجموعات مختلفة، تحمل حقائق مختلفة في وحدة جغرافيا محدّدة. وتكون التعدّدية حالة مرغوبة في حال تمكّنت المجموعات المختلفة من التعايش بسلام ضمن الوحدة الجغرافية، بحيث يُنتج تَواجُه الحقائق إمّا قبولاً لكلّ مجموعة لقناعات الأخرى، أو تفاعلاً يؤدّي إلى نشوء حقائق جديدة تكون نتاجاً للحوار الإلزامي ما بين المجموعات.

أمّا الكارثة فهي عندما تحاول إحدى المكوّنات تذويب الحقائق الأخرى من خلال الإكراه أو من خلال الإفناء، وهي الحالات التي تشكّل معظم تاريخ البشرية المعروف.

وقد يخطر ببال البعض أنّه، تجنّباً للعنف وخطر الفناء، وبما أنّ الحقائق في المحصّلة هي غير ثابتة، لِم لا تخضع الأقليات أو المجموعات الضعيفة لسلطة الأقوى و»حقائقه»، فيأتي الجواب بأنّ الحرية قد تكون من أكثر الدوافع الإنسانية شراسةً وقوّة، لذلك فليس من المستغرب أن ترى الآلاف والملايين من البشر يضحّون بحياتهم وبراحتهم حفاظاً على حرّية معتقدهم وشعائرهم.

لبنان ملجأ الساعين للحرّية:

وهذا بالضبط ما دفعَ الموارنة منذ قرابة خمسة عشر قرناً لتركِ بيوتهم وأراضيهم في سوريا، بعد المجرزة التي حلّت برهبانهم، لينتقلوا للعيش في جبل لبنان دفاعاً عن «حقيقتهم» المتمثلة يومها بالقناعة «الخلقيدونية».

بالمحصّلة، فإنّ جبال لبنان أصبحت على مرّ الدهور ملجأً لكلّ الشعوب المستضعفة والتي أتت لتحمي «حقائقها» الجماعية. لذلك نرى هذا المزيج التعدّدي الذي جمع 18 «حقيقة»، بعضُها متنافر» في بقعة جغرافية قد لا تتعدّى مساحة مدينة من المدن الكبرى في العالم.

فإذا كان للمسيحيين والشيعة والدروز أسبابُهم المنطقية والتاريخية للجوئهم إلى لبنان، فأنا أرى اليوم أنّ السنّي أيضاً وجَد في هذه المساحة القدرة والحقّ في ممارسة قناعاته السياسية والعقائدية من دون إكراه رسميّ كان من الممكن أن يفرضَ ضوابط ونمطية على مسار حياته. كما أنّه وجد مساحة حرّة للخروج عن التقليد والنمطية والإرهاب الاجتماعي في ممارساته اليومية المتعلقة بالسلوك الشخصي.

الواقع، وبعد سنوات من التردّد، لقد وصلنا في 14 آذار 2005 إلى قناعة مشترَكة، وهي أنّ لبنان لم يكن أبداً غلطة تاريخية ولا نتاجَ مؤامرة «سايكس بيكو» بل إنّه وطنٌ نتجَ عن ضرورة تاريخية لإيجاد مساحة من الحرّية والتعدّدية.

صحيح أنّ العلاقة بين مكوّنات هذا البلد لم تكن سويّة دائماً، ولم نصل بشكل عام بعد إلى الانتقال من منطق قبول الآخر على مضض إلى منطق تفهّم الآخر واستكشاف هواجسه ووضع نفسه في موقع المدافع عن موقف الآخر كسبيل لحلحلة الهواجس.

وهذا لا يمكن أن يكون بالإمعان في فتح كوابيس الماضي والاستمرار في تعيير الآخر بما فعله، فلكلّ منّا زلّاتُه و»مَن كان منّا بلا خطيئة فليرجمها بحجر». فبدل أن نُعيّر بعضنا بالتعامل مع إسرائيل، علينا أوّلاً تفهّم الأسباب والمسوّغات، وقبل أن نُعيّر بعضنا برفض الكيان اللبناني والتعاون مع المنظمات الفلسطينية، علينا أوّلاً فهم السياق التاريخي لهذه الواقعة، وقبل أن نُمعن اليوم بتعيير بعضنا بخدمة مصالح إيران، علينا أيضاً فهم المسوّغات التاريخية لهذا الواقع. وبالوقت نفسه، على كلّ مجموعة منّا الاتّعاظ من تجارب المجموعات الأخرى في تطلّعِها إلى خارج الحدود الوطنية للاستقواء على الآخرين، وكيف أدّت كلّ تجربة إلى كارثة جماعية.

اليوم، يبدو من الواضح وجود سوء فهم لمواقف السنّة بالذات من مسألة التطرّف المتمثّل اليوم بداعش ومثيلاتها، وهناك مِن اللبنانيين مَن يعتبر أنّ هذا التطرّف الإرهابي هو محتضَن من قِبل السنّة في لبنان، والأسوأ هو أنّ مَن يعلن براءته من التطرّف يصبح مجرّد شذوذ عن القاعدة. لقد أظهرَت استطلاعات رأي من جهات مستقلة أنّ ثلاثة بالمئة فقط من سنّة لبنان يعتبرون داعش تمثّل تطلعاتهم، فيما يؤكّد الباقون أنّها نوع من الغُلوّ المقيت، وينعتها البعض حتى بالخروج عن الدين ومبادئه. هذا لا يعني أنه يجب التقليل من خطورة الموقف، خاصةً لأنّ المنطقة بمجملها تعيش حالة من الغليان العنيف دون أن يظهر في الأفق احتمال لحلول تؤدّي إلى الاستقرار. لذلك من واجب مكوّنات الوطن أن تتفهّم واقع السنّة اليوم وهواجسَهم حتى نتمكّن جميعاً من المرور بالقطوع الإقليمي بأقلّ قدر من الخسائر، والمحافظة على الكيان الذي احتمينا به منذ قرون.

إنّ هذا الطرح ليس من عالم الأحلام، لقناعتي بوجود نُخَب وطنية قادرة على أن تكون عابرة للطوائف وللمجموعات، وقادرة على الدفاع عن هواجس المجموعات المسمّاة أخرى كما لو كانت تحمل الهواجس نفسها، وهذه النواة ولو كانت صغيرة بحجمها، ولكنّها «كحبّة الحنطة» يمكنها أن تنبتَ وتغمر الأرض لو أعطِيَت العناية اللازمة والثقة الكافية.