IMLebanon

عن كابوس التصويت ومفاجآت الصناديق

 

كان يُفترض أن يكون المشهد الانتخابي المنتظر منذ العام 1972 على الشكل الآتي: طوابير لا تنتهي في مراكز الاقتراع توصل فجر الانتخاب بمسائه، زعماء يَحتفون بنصر مبكر طالما أنّ «أفواج» الناخبين سيطوّقون محيط أقلام الاقتراع الى حدّ الاختناق، وماكينات إنتخابية منشغلة بحسبة حواصل غير مسبوقة فقط لأنّ قانون الانتخاب القائم على النسبية، للمرة الاولى في تاريخ الاستحقاقات النيابية، يمهّد لـ»فتح» إنتخابي يسجّل رقماً قياسياً في نسبة الاقتراع. ما حصل عملياً، نكسة تصويت لا شيء يعوّضها سوى اعتراف رسمي جريء بالفشل في جرّ اللبنانيين اليائسين الى صناديق الاقتراع!

لم يسبق لرؤساء جمهورية ما بعد «اتفاق الطائف» أن حملوا هَمّ رفع نسبة التصويت الى حدّ إطلاق نداءات استغاثة للناخبين للقيام بواجبهم الطبيعي، في ظل قوانين انتخابية وصفت دوماً بـ»الجائرة». هذا ما فعله «الرئيس القوي».

إضطر الرئيس ميشال عون، قبل ساعات من إقفال الصناديق، الى إعلان ما يشبه حالة طوارئ إفتتحها صباحاً بالمجاهرة بتصويته «للعهد» متخلّياً عن دوره الحيادي، كرئيس للجمهورية، بالوقوف على مسافة واحدة من جميع «اللوائح» المتنافسة، ثم من خلال طلبه من الناخبين، خلال وجوده في وزارة الداخلية، الاقتراع في ما تبقّى من وقت قبل إقفال الصناديق، وصولاً الى «نداء بعبدا» الرئاسي المقتضَب الذي أعرب خلاله عن «تفاجُئه بضعف الاقبال»، مجدّداً صرخته «بعدم تضييع الفرصة إذا كنتم ترغبون بالتغيير وبإرساء نهج جديد».

لم يكن رئيس الجمهورية وحده من دقّ ناقوس الخطر. جميع القوى السياسية تقريباً إنخرطت في عملية «التجييش» الانتخابي الى حدّ «الهذيان». النائب وليد جنبلاط طالب «بالانقضاض على مركز الاقتراع كـ»رفوف الحجال» الشامخة للحفاظ على هويتنا في مواجهة الطارئين كالغربان السود الذين يحومون على الجيف والنفايات من جماعات السلطة الفعلية والمُلحقة»، والشيخ نعيم قاسم إجتهد لتمديد غير قانوني لمهلة الاقتراع بالتنسيق مع وزير الداخلية، فيما أصدر «التيار الوطني الحر» بياناً أظهَر حجم الإرباك والقلق من نسب الاقتراع في كافة المناطق.

غالبية المرجعيات وجدت نفسها تَلطم بسبب فشلها في إقناع، المحسوبين عليها قبل أي أحد آخر، بالتوجّه الى الصناديق. كل الصراخ الانتخابي، والفجور الاعلامي، وخرق «الصمت»، والاستعراضات الاعلامية، والتحريض الطائفي والمذهبي والسياسي… ذهب أدراج الرياح. توّجت النكسة بتعميم وزارة الداخلية التي ابتدعت مخرجاً مثيراً للالتباس: إعتبار محيط مركز الاقتراع بمثابة باحة للاقتراع في حال عدم وجود باحة!

برودة شعبية تُحبط وهج عهود وليس عهدا واحدا فقط، إنتهت بحشر ناخبين داخل «قفص» مراكز الاقتراع! روّج كثيراً لقانون انتخاب سيقلب الطاولة بهمّة الناخبين المتحمّسين لخوض غمار معركة تعيد للصوت قيمته. قانون أعاد للمسيحيين حقوقهم، وأفسح المجال للفئات المهمّشة بالتمثّل. «بتسوى صوت تتمثل بصوت». خطابات الوزير جبران باسيل، خلال جولاته على كافة الدوائر، شاهدة على «مآثر» قانون «صُنع من أجلكم ولكم». قانون جنّدت له أدمغة، وجولات «نووية» في التفاوض وفرض الشروط. قانون شكّل أحد أبرز إنجازات العهد وعلى أساسه شكّلت لوائح «العهد القوي» على قاعدة تخوين كل من لا يصوّت لها…

عام 1960 بلغت نسبة الاقتراع 50,91%، عام 1972 إرتفعت النسبة وسط مقاطعة مسيحية الى 56,8%، و46,4% عام 2005، و51,03% عام 2009. كان يتوقّع حصول إقبال قياسي بعد «عطش» للمحاسبة ورغبة بالتخلّص من طاقم «شَلّش» في ساحة النجمة، لكنّ ساعات «اليوم الكبير»، حتى السابعة مساءً وقبل تمديد الوقت، كشفت مناعة ظاهرة ضد الزحف الانتخابي بحيث بلغت نسبة الغقتراع العام 49.2 في المئة. مع ذلك، رَسَمت النتائج معالم ما يشبه الإنقلاب على التوقعات. كابوس حقيقي أقلق «الكبار» مع تقدّم نتائج الفرز ليلاً، والتي حملت مفاجآت حقيقية لم تأت لمصلحة «محادل» السلطة.
تسع سنوات بلا انتخابات. تصحّر ديموقراطي كان يفترض أن يلاقيه «تسونامي» شعبي يتوق الى التعبير والمحاسبة، بقانون أكثري أو نسبي، لا يهمّ.

كل شيء كان جاهزاً لعرس التصويت القياسي ولاجتياح للوائح السلطة. عهد جديد قوي، قانون جديد، «إعلان نوايا» بمحاسبة الفاسدين ووضعهم في السجون، موازنة ومراسيم نفطية وترويج لسياحة «من ذهب»… هذا ما لم يحصل. الإعتكاف عن أهمّ حق منحته دساتير العالم لشعوبها هو نكسة سياسية كبيرة.

كل مبرّرات «العجز» الانتخابي عن إقناع الناخبين للاقتراع بكثافة، بعد عام ونصف من انطلاق عهد يَعِد بالكثير، لن تكون مقبولة. «الوحشنة المالية» التي تحدّث عنها باسيل يفترض أن ترفع نسبة الاقتراع لا أن تخفّضه. أما ممارسة التخويف والاستفزاز وافتعال الإشكالات فسلاح يُتقنه الجميع، لا جهة من دون أخرى. إذاً، هناك مساواة في التخويف والإستفزاز.

تفضيل الجبل والبحر والمنزل على إسقاط ورقة في الصندوق قد يعود لاقتناع غالبية اللبنانيين أنّ المجلس نفسه عائد، وإن تغيّرت بعض الوجوه. لنضع جانباً تركيبة القانون الملتبسة وغير المنطقية والهجينة. في حكومة من 30 وزيراً هناك 16 وزيراً مرشّحاً. مخالفات كبار القوم الانتخابية الفاضحة تُدرّس في كبرى الجامعات عن فنّ «النصب» على الرأي العام. موارد موضوعة بتصرّف مرشحين دون آخرين. «هيئة إشراف» لا تشرف سوى على «عجزها». ملايين الدولارت تُصرَف بوقاحة على انتخابات في بلد مُفلِس ومُحبط…

بالنتيجة، إحباط على مستويين: خمول شعبي في التصويت كاد أن يلامس الاستسلام لأمر واقع لن تغيّره قوانين انتخاب طُبِخت بذهنية الاستئثار والتقاسم والإقصاء، وتحالفات سياسية نُسجت بمعظمها خلافاً للطبيعة السياسية فولّدت إحباطات في الصناديق كان المُنتصرَ الوحيدَ فيها مرشّحو المفاجآت والحواصل غير المتوقعة والتفضيلي الذي أسقط رؤوساً وعَوّم أخرى!