كان الأردن يتصرف طيلة السنوات الماضية على أساس عدم وجود جيش عراقي نظامي يتميز بالكفاءة يمكنه مواجهة قوات «داعش»، خصوصاً في غرب العراق. اليوم بات واضحاً أن هذه الحسابات الأردنية تغيرت بفعل أربعة عوامل، أولها انطلاق عمليتي الموصل والرقة، ثانيها التدخل الروسي في سورية منذ نحو عامين، وثالثها مجيء إدارة أميركية جديدة فرضت ترتيبات جديدة على المشهدين العراقي والسوري، وأخيراً تبلور جهد دولي واسع يجعل بوابة مكافحة الإرهاب مدخلاً لإعادة ترتيبات المنطقة.
تغير الحسابات لا يقتصر على عمّان، بل يشمل الرياض والقاهرة وغيرهما. وعلى وقع هذه المعطيات الميدانية، نشهد حراكاً سياسياً عراقياً تجاه دول المنطقة العربية، تجلى في نهج رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي ووزير داخليته قاسم الأعرجي، وحراك الزعيمين مقتدى الصدر وعمار الحكيم نحو الرياض وعمّان والقاهرة.
موجبات التقارب العراقي – العربي كثيرة ويفرضها تغيّر الظروف الإقليمية وتغيّر ظروف العراق ونجاح العراق في دحر «داعش» من الموصل ووجود رغبة أميركية قوية في تحسين علاقات العراق مع جيرانه العرب. وقد رحبت واشنطن بزيارات الزعماء السياسيين العراقيين الأخيرة عمّان والقاهرة والرياض. ولقد ضاع وقت كثير بسبب سياسة عربية مفادها أن «احتضان العراق يتطلب تحقيق جملة شروط»! وحصاد أربعة عشر عاماً، منذ غزو العراق عام 2003، يؤكد أنه لا يمكن تخيّل منطقة عربية قوية في ظل عراق ضعيف ومفكك ومستنزف وتهيمن طهران على كثير من مفاصل قراراته السياسية. وكذلك اتضح أن تقوية الوطنية العراقية ووقوفها في وجه سياسة «الاستلحاق والاستتباع» التي تنتهجها إيران مع قوى نافذة على الساحة العراقية، لا يمكن أن يتمّا من دون حاضنة عربية تتخلص من «إرث ما بعد 2003»، وتكرّس بناء الثقة وتتجاوز المعادلات الصِفرية وتقتحم المناطق الرمادية في إرث العلاقة وتستثمر في عناصرها المستجدة.
اليوم نستذكر تصريحات السفير الأميركي لدى العراق كريستوفر هيل في 2009 بأن العراق يمكن أن يصبح محركاً للاستقرار الإقليمي والنمو الاقتصادي، وحديثه عن أن علاقة العراق مع جيرانه ستحدد شكل المنطقة في السنوات المقبلة.
وعلى رغم كل هذه السنوات التي مرت، فإن الثابت في الاستراتيجية الأميركية أنها تحاول إقامة هيكل أمني أكثر اعتماداً على الذات، يتطلب مشاركة خارجية فقط في الظروف الصعبة. وما ينقص العراق هو إطار عمل أمني إقليمي يسمح للعراق اليوم باستعادة مكانته الإقليمية، عبر الانخراط في حوار بنّاء حول هذا الإطار مع جيرانه، الذين عليهم النظر إلى أن إعادة الاستقرار إلى العراق ومحاربة الإرهاب فيه ومشاركة الجوار العربي في إعادة إعماره وتنميته والاستثمار فيه أدوات أساسية لترسيخ العمق العربي في سياسة العراق و «مدافعة» النفوذ الإيراني في هذا البلد، وهو نفوذ تصاعد في ظل غياب عربي وتردد سياسي وتواطؤ أميركي من خلال «لعبة التوازن الطائفي» و «التمييز بين إرهاب وإرهاب».
ثمة فرصة سانحة لـ «طي إرث 2003» وإعادة الحسابات من خلال ربط المصالح العربية بمغادرة سياسة التردد والارتباك وعدم الهروب من دفع «كلفة الجرأة الديبلوماسية». هذه الجرأة يتعين أن تتجه نحو استثمار حال «التململ» الموارب لدى العراقيين من فجاجة التدخل الإيراني في بلدهم واستغلالهم وتعاطي طهران معهم كأتباع. ذلك يتحقق أيضاً عبر الإقرار بأن «سياسة المحاور» بأبعادها الطائفية أضعفت الوطنية العراقية وأضعفت المصالح العربية في آن، وسيستمر إضعافهما طالما استمر اختزال العرب العراق في «الحشد الشعبي» ونوري المالكي، وطالما استمرت الإساءة إلى شيعة العراق بتصويرهم كأنهم وإيران، عملة واحدة!
السؤال: ما جدوى حديثنا عن أن طهران تحتل أربع عواصم عربية إن لم يكن المقصود التحرك العربي الذكي لمنعها من ذلك، ووقفِ هذا القَدَر بقَدَرٍ غيره… يبدأ من أرض الرافدين؟